د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

أميركا والردع النووي... من التهديد إلى التفوق الساحق

على مدى ستة عقود ساد مفهوم الردع النووي باعتباره استراتيجية تتبعها القوتان العظميان للحيلولة دون وقوع حرب نووية تقضي على الأخضر واليابس فيهما وفي أجزاء أخرى من العالم. واستند المفهوم إلى فرضية أن الدول التي تملك الأسلحة النووية هي قوى عاقلة وتتخذ قراراتها برشادة تحول دون استخدام الأسلحة النووية، وتطبيقاً لهذا المفهوم التزمت كل دولة نووية عدم البدء بالضربة الأولى تجاه العدو، ولكنها أصرت على حقها في استخدام الضربة الثانية الانتقامية رداً على الضربة الأولى في حال تم استهدافها، وهو ما تبلور في مفهوم التدمير الشامل المتبادل. والأمران معاً يصبان عملياً في منع استخدام الأسلحة النووية فعلياً، ولكن يُسمح بالتهديد بها سياسياً من قبيل الضغط على الخصوم. وهي الصيغة التي حققت نوعاً من الأمان النسبي للعالم، باعتبار أن القوتين العظميين الأكثر امتلاكاً للرؤوس النووية ووسائط إطلاقها لن تنزلقا إلى مواجهة نووية مكلفة إنسانياً لهما ولغيرهما معاً. وفي الآن ذاته صار التركيز على تطوير القوة العسكرية التقليدية والانخراط في مواجهات عسكرية تقليدية بعيداً عن أراضيهما لتحقيق نقاط سياسية دون التورط المباشر في أي مواجهة عسكرية.
تاريخياً فقد سعت الولايات المتحدة بعد استخدامها القنبلة النووية في أغسطس (آب) 1945 في مهاجمة اليابان واستسلامها، إلى احتكار القوة النووية ومنع أي دولة في العالم من امتلاكها، غير أن الاتحاد السوفياتي رفض الأمر، وبعد نجاحه في امتلاك التقنية النووية عام 1949 وإطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء في 1957، فقدت الولايات المتحدة ميزة الاحتكار النووي، ثم نجحت دول أخرى كبريطانيا وفرنسا والصين وجنوب أفريقيا والهند في امتلاك أسلحة نووية، مما جعل التركيز على منع الانتشار النووي كأحد الأهداف الكبرى للاستراتيجية الأميركية تجاه العالم، وتشجيع مناطق بكل دولها على الانخراط في معاهدات لإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية والامتناع عن أن تكون منطقة لنقل أو لعبور الأسلحة النووية إلى بلد أو منطقة أخرى. وامتد الالتزام المتبادل إلى عدم عسكرة الفضاء تقليدياً أو نووياً أو ضمن منظومات الأسلحة الليزرية الفائقة السرعة الشديدة التدمير.
وتطبيقاً لسياسة الردع النووي، تم التوصل إلى اتفاقات ومعاهدات خاصة بالتخفيف من أعباء سباق التسلح النووي، وأشهرها اتفاقات ستارت 1 و2 الخاصة بالحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية، ومعاهدة القوى النووية المتوسطة (INF) التي انسحبت منها الولايات المتحدة مطلع هذا الشهر، وتعد الفكرة الرئيسية وراء كل هذه المعاهدات أن تكدس الأسلحة النووية ووسائط إطلاقها الاستراتيجية من طائرات وغواصات وصواريخ باليستية لا يشكل فرقاً كبيراً إذا ما تم امتلاك عدد أصغر من القنابل النووية، وكثير من الدراسات التخيلية عبر الحاسبات الآلية الفائقة السرعة والتي جرت في مراحل مختلفة أثبتت أن استخدام 100 صاروخ برؤوس نووية تكفي لتدمير 30 في المائة من السكان في منطقة الاستخدام، وتؤثر على 20 في المائة من الإنتاج الزراعي، وتدمر البيئة براً أو بحراً تدميراً شاملاً وتظل تأثيراتها مستمرة لعدة عقود من الزمن. وأن أي قوة نووية لا تستطيع أن تستخدم أكثر من هذا العدد في أي مواجهة محتملة لأن النتيجة تعني فناء متبادلاً بكل معنى الكلمة. وهنا تطور الأمر إلى مبدأ نزع السلاح النووي، والذي تطبقه الولايات المتحدة على من تعتبرهم دولاً أعداء، كما هو الحال مع إيران وكوريا الشمالية، وتتغاضى عنه مع الدول الحليفة كإسرائيل أو صديقة كالهند وباكستان. ولكنه يظل حلماً بالنسبة للعالم ككل ما دام الصراع الآيديولوجي والمصلحي قائماً بين البشر.
في عهد الرئيس أوباما، وهو الرئيس الحالم بعالم خال من أسلحة الدمار الشامل، دعت مراجعة الموقف لدور الأسلحة النووية في استراتيجية الأمن القومي الأميركية للعام 2010 إلى تخفيض دور الأسلحة النووية، ووضعت عدة قيود عند استخدام تلك الأسلحة، ولكنها لم تتخلَّ عما سمته الوثيقة بمحاسبة كاملة لأي طرف يستخدم أسلحة الدمار الشامل، نووية أو كيماوية أو بيولوجية، سواء كانت دولة أو جماعة إرهابية أو جهة غير رسمية. إلا أن الأمر لم يستمر طويلاً، ففي مراجعة تقييم الموقف النووي للعام 2017. في ظل إدارة الرئيس ترمب، تغير الأمر جذرياً، فقد تضمنت الوثيقة مفاهيم جديدة تعبر عن أن سياسة القوة القصوى هي خير وسيلة للسلام من خلال ضمان عدم تهديد أي طرف للأمن القومي الأميركي، أو للمصالح الأميركية عبر العالم، وهو ما يتحقق من خلال تطوير منظومة الأسلحة النووية الثلاثية والتي تتضمن الصواريخ ذات المديات المختلفة، والغواصات الاستراتيجية والقاذفات، والتخلص من أي قيود تحول دون ذلك، مع وضع خطط لنشر أسلحة في الفضاء تحول دون استخدام الآخرين الصواريخ الباليستية. وبينما فتحت الوثيقة الباب أمام تطوير رؤوس نووية صغيرة الحجم واستخدامها في مجال عملياتي عسكري محدود، ومن خلال صواريخ ذات مدى متوسط، حاولت وزارة الدفاع الأميركية تخفيف الأمر بالتأكيد على عدم وجود نوايا لخفض مستوى استخدام الأسلحة النووية، غير أن التقارير التي خرجت من وكالة الاستخبارات الأميركية قالت العكس، فالهدف الاستراتيجي وإن تمت صياغته في صورة عامة أي تحييد وردع أي هجمات استراتيجية نووية وغير نووية، إلا أن استخدام الأسلحة النووية أصبح وشيكاً. وقد بدا الأمر بمثابة تمهيد لتغيير جذري في المفاهيم الخاصة بالردع النووي، وعدم عسكرة الفضاء، والتخلي عن المعاهدات مع روسيا الخاصة بالصواريخ، ووضع ميزانية تفوق 1.3 تريليون دولار لتطوير الأسلحة النووية.
هذا التمهيد للاستخدام الفعلي لرأس نووي وإن كان محدود القوة يماثل قوة قنبلة هيروشيما ذات 20 طناً (أي 20 ألف كيلو من مادة تي إن تي)، ليس موجهاً لروسيا فقط، بل يتضمن الصين أيضا التي تعتبرها دوائر اليمين الخطر الأكبر على المصالح الأميركية في آسيا وفي العمق الأميركي نفسه. وكثير من المحللين الأميركيين يرون أن هذا الأمر منطقي، لأن الصين وهي ليست ملزمة بأي معاهدة لخفض التسلح النووي، لديها قدرات نووية يزداد حجمها وقوتها التدميرية ولديها صواريخ باليستية بعيدة المدى يمكنها الوصول إلى الأراضي الأميركية، كما أنها تنشر أسلحة نووية في البر والبحر وبما يمكنها من القيام بالضربة الانتقامية الثانية. ولمواجهة هذا الخطر فالأفضل لأميركا أن تنقل الحرب إلى عمق الأراضي الصينية وأن يكون لديها القدرة على استخدام كافة أنواع الصواريخ في آن واحد. ولذا فالتحرر من قيود المعاهدات الموقعة مع روسيا رسالة إلى الجميع بأن الردع النووي لم يعد سياسياً وحسب، بل أصبح فعلياً أيضاً.