عندما يستمر عدد سكان «فيسبوك» في الازدياد، ويتجاوز رقم مليار وسبعمائة مليون، فيزيد عن أنفس الصين الشعبية (1.415.045.928 وفق إحصاء 2018)، من الجائز أن يقفز للذهن تساؤل: أيمكن القول إن الشاب النابغ مارك زكربيرغ، المبتكر المؤسس، بلغ من القدرة على التأثير في الحياة اليومية للناس فوق كوكب الأرض، ما يفوق أهمية الكثير من مشاهير نجوم الدنيا بأي مجال، وبينهم السياسيون، في المشارق والمغارب؟
نعم - مع ترك هامش شكٍ يظل مطلوباً - بوسع أي متابع لمدى اتساع نفوذ منصات التواصل الاجتماعي، أو «سوشيال ميديا»، كما صارت تُعرف، حتى على ألسنة غير الملمين بأبجدية الإنجليزية، أن يدرك كم هو تأثير مارك زكربيرغ العالمي، قياساً بما حقق، مثلاً، بعضٌ من ساسة أمضوا عقوداً يمارسون الزعيق السياسي بلا أي مردود دولي على الإطلاق، وبقليل من الحصاد المُجدي محلياً، إلا في حال عُدَّ استمرار صراخهم داخل جدران مجتمعاتهم نوعاً من الإنجاز المفيد.
لكن بقدر ما أن دور «فيسبوك» - وما أفرز من كائنات تواصل اجتماعي، كما «إنستغرام» و«واتساب» - إيجابي التأثير، في الأغلب الأعم، أضحى واضحاً، كذلك، كم استولدت ثورة الاتصالات، عموماً، مصائب على غير مستوى، منها السياسي، وبينها الاجتماعي، لكن أخطرها يبقى ما جلبت وسائلٌ يُفتَرض أنها تخدم غرض التواصل بين الناس، من مآسٍ ولّدت جروحاً في نفوس آباء وأمهات، ربما يمضي زمن طويل كي تُنسى، إذا كان ممكناً نسيانها. ضمن هذا السياق، يمكن استحضار مثال صدم الأسبوع الماضي مختلف شرائح المجتمع البريطاني، حتى أن غير تصريح حكومي لمّح إلى احتمال استصدار لوائح تضع منصات «سوشيال ميديا» محددة على قائمة «ممنوع» من التحليق في فضاء الإنترنت، إذا لم تُتخذ إجراءات تضمن عدم إلحاق الأذى بصغار السن عموماً، وبالمراهقين تحديداً. بدأت القصة بأن أتاح إيان راسل لقَرح صار جبل حزن محمولاً على ظهره أن يطل على الناس، فقال إن ابنته مولّي، ذات الأربعة عشر عاماً، شاهدت عبر «إنستغرام» ما أدى، جزئياً، إلى انتحارها، مضيفاً أن ما تركته الابنة من ملاحظات بشأن مشاهدات تتصل بإيذاء الذات، يجعله متأكداً من إسهام ما يُتداول على «إنستغرام» في مأساة ابنته.
أما كان ممكناً أن يمر كلام الأب المفجوع بابنته مرور الكرام، فلا يثير ما أثار من الزوابع؟ كلا. السبب؟ لأن مأساة المراهقة مولّي راسل ليست الأولى. بكل تأكيد، الكل يتمنى لو أنها الأخيرة. هل يمكن ذلك؟ يصعب الحسم بنعمٍ أو كلا. توضيح ذلك سهل. صحيح أن مواقع «سوشيال ميديا» تتحمل النصيب الأكبر من مسؤولية مراقبة محتوى ما يُتداول بين الأعضاء المنتسبين إليها، لكن الصحيح أيضاً أن الآباء والأمهات يتحملون نصيباً من المسؤولية إزاء ما يطلع عليه الأبناء، أو ما يتداولونه فيما بينهم، أو ما ينشرونه، كلاماً وصوراً، عبر تلك المواقع. من جهتهم، يكرر القائمون على منصات التواصل الاجتماعي القول إنهم حريصون على مراقبة المحتوى، وإزالة أي مضمون يشجع على إلحاق الأذى بالنفس، أو إيذاء آخرين لأسباب تتعلق باللون، أو العرق، أو الدين، أو حتى الوزن لجهة السُمنة والنحافة. ذلك كله مطلوب، بلا شك، والأرجح أنه يسهم، بقدرٍ ما، في التصدي لما أفرزت تلك المواقع من ظواهر باتت تشكل موضع قلق على غير مستوى، سواء في المجال الرسمي، أو المُجتمعي.
مع ذلك، هل يمكن القول إن ما أنتجت «سوشيال ميديا» من نِقمة سلبياتها، مقابل نِعَم إيجابياتها، يمكن أن ينتهي بلا رجعة؟ كلا، بالتأكيد. في زمن أسقطت فيه تلك «الميديا» ذاتها كل جُدْر الخصوصيات، لم يعد ممكناً لأحد التحصن وراء أي جدار يظن أنه سوف يحول بينه وبين انكشاف حتى ما يثرثر بشأنه، وبلا سيئ القصد تجاه أي أحد. يبقى تسجيل مفارقة تلفت النظر، خلاصتها أن أسبوع الكشف عن مأساة مولّي راسل، تصادف مع بدء السير نيكولاس كليغ العمل مع «فيسبوك» نائباً للرئيس مارك زكربيرغ. لطيفٌ أن رئيساً في السابق لحزبه (الديمقراطيون الأحرار)، ونائباً لرئيس حكومة بلده (زمن ديفيد كاميرون) يَعِد الآن بالعمل على الحد من حرية أي استهتار على «إنستغرام» قد يتسبب بانتحار أحد، فهل ينجح؟
8:2 دقيقه
TT
نِعمة «سوشيال ميديا» ونقمتها
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة