حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

المنازلة في سوريا: فلسطين التي اختفت

بعد كل غارة إسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا، ينبغي أن يُطرح سؤال بسيط إلى درجة البداهة: ما علاقة الصراع الإيراني – الإسرائيلي في سوريا ولبنان بالقضية الفلسطينية، وكيف يؤثر الصراع هذا على الوضع في الأراضي المحتلة؟
يخرج قارئ المقالات التحليلية في الصحافة الإسرائيلية، والمنصت إلى تصريحات المسؤولين الإيرانيين في «الحرس الثوري» خصوصاً، بانطباع مفاده أن الجانبين يخوضان معركة لانتزاع مكاسب استراتيجية في ميدان مفتوح هو الأراضي العربية التي تبدو وفق البيانات والمعلومات الإيرانية والإسرائيلية مناطق خالية من السكان، أو على الأقل مناطق ينتظر سكانها الأصليون نتيجة المعركة التي تدور من حولهم ولا صلة لهم بها، ليباركوا للمنتصر وليهتفوا له بطول البقاء.
يقول الإسرائيليون إنهم في غاراتهم المتكررة، ووقع آخرها يومي الأحد والاثنين 20 و21 يناير (كانون الثاني) الحالي، يدمرون مخازن الصواريخ الإيرانية الموجهة ضد «المدنيين الإسرائيليين»، التي يُنقل قسم منها إلى «حزب الله» اللبناني استعداداً لحرب مقبلة ستكون أشد عنفاً وأوسع دماراً من كل ما شهدته الحروب السابقة. يضيفون أن تكتيك القضم الإيراني مجرد جزء من استراتيجية تهدف إلى نشر قوات من الشيعة الأفغان والعراقيين والباكستانيين عند تخوم الجولان السوري المحتل، في حين يتولى «حزب الله» الجانب اللبناني من الحدود وبعض المهمات التدريبية والقيادية للميليشيات الموالية لإيران في سوريا.
في المقابل، تنفي طهران أن تكون قد نشرت وحدات مقاتلة في سوريا، وأن كل العسكريين الإيرانيين هناك ليسوا سوى مستشارين وخبراء يقدمون خدماتهم للجيش السوري. مع ذلك، لا يتردد قادة «الحرس» في الإعلان عن شوقهم لتدمير إسرائيل وفراغ صبرهم من انتظار حلول ساعة المعركة الكبرى (خلافاً لإنكار وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف قبل أسابيع قليلة أن تكون عبارة «تدمير إسرائيل» قد خرجت في يوم من الأيام من فم مسؤول من بلاده... لكن هذا شأن آخر).
المهم في الروايتين هو خلوهما من أي إشارة إلى ما يفترض أنه سبب الخلاف بين إيران وإسرائيل: القضية الفلسطينية. ويبدو التذكير بأسس هذه القضية من لزوم ما لا يلزم، وخلاصة الأسس تلك هي الحل على أساس الدولتين بحيث تتألف الدولة الفلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية، على أن تُعالج قضية اللاجئين علاجاً عادلاً ضمن الاعتراف بحق العودة. توجز الكلمات القليلة هذه ما توافق العالم عليه منذ انطلاق مفاوضات مدريد في عام 1991 على الأقل، ولم يحرز تحقيقه تقدماً كبيراً منذ ذلك الحين باستثناء توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993 وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية في 1994. بيد أن للتذكير أهميته الخاصة في هذه الأيام. ذلك أن إغفال القضية الفلسطينية بصفتها قضية شعب ما زال يعيش حتى اليوم ذل المنافي والشتات، والحرمان من الهوية في الخارج، وقمع الاحتلال وتمييزه وبطشه في الداخل، يجعل من المعاناة اليومية لشعب بأسره مباراة في الخطابة من جهة، واستعراضاً للجبروت العسكري من الجهة المقابلة.
وليس هذا ما يحتاج إليه الفلسطينيون. ولا تعالج هذه السياسات وباء المستوطنات ولا تفتح أفقاً أمام طريق النضال الفلسطيني المسدود بألف عائق وتجد مستقبلاً لمئات الآلاف من الشباب الفلسطيني العاطل عن العمل ولا تفرج عن آلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية، وغير ذلك مما يُشكل عظم ولحم النكبة المستمرة إلى يومنا هذا.
ولا بد من القول إننا أمام مشروعين إمبراطوريين، إيراني وإسرائيلي، يهدفان إلى أشياء كثيرة ويستخدمان أدوات وعملاء وحلفاء كثراً، ولكل منهما منطقه ومسوغاته ومساراته. لكن المشروعين هذين يتعاملان مع القضية الفلسطينية تعاملاً أداتياً لخدمة أهداف قد لا تعني الشعب الفلسطيني كثيراً أو قليلاً. فما هي الفوائد التي تجنيها القضية من التسليح والتمويل الإيرانيين لبعض الفصائل ومناصبة طهران العداء لفصائل أخرى ليست أقل أهمية أو وزناً؟ وما هو الأفق السياسي للمشروع الإيراني فيما يخص الجانب الفلسطيني؟ سبق أن اقترحت القيادات الإيرانية إجراء استفتاء لكل المقيمين في فلسطين وللشتات حول المستقبل. لكن هذا الاقتراح طوته تصريحات التدمير والمحو والإزالة عن الخريطة. بكلمات ثانية، فضلت إيران بيع الفلسطينيين كلاماً والاستثمار في صراعاتهم الداخلية عوضاً عن الانخراط في جهد سياسي منتج. يرجع ذلك إلى حاجات النظام الايديولوجية والاستراتيجية وإلى فهمه المنبثق من هذه الحاجات للقضية الفلسطينية.
في حين أن المشروع الإسرائيلي يتعامل مع القضية كأنها باتت في حكم المنتهية، وأن «الخطر الإيراني» خطر أمني ولا بعد سياسياً له يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني ومصيره. وعليه، يحيط الإسرائيليون القضية بالتجاهل والتعتيم.
قد لا تكون الجولة المقبلة من المنازلة الإيرانية - الإسرائيلية بعيدة، لكن الأرجح أنها لن تجلب إضافة جديدة إلى لب الموضوع ومحتواه.