طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

آفة صحافتنا الاستسهال

«آفة حارتنا النسيان»، كما قال نجيب محفوظ. وأقول أنا: «آفة صحافتنا الاستسهال»، ودّعنا قبل أيام قلائل، في هدوء ووقار واحترام يليق باسمه ومسيرته الشّخصية، الفنان الخلوق سعيد عبد الغني، إلّا أنّك لو تابعت تلك الاجتهادات التي استبق بها الزملاء الرحيل، الذي لم يكن مفاجئاً، إذ إنّ عبد الغني تعرض لمأزق صحّي حاد خلال السنوات الأربع الأخيرة، أبعده عن الوقوف أمام الكاميرا.
ما تردّد في عدد من الجرائد والمواقع والمنصّات الإخبارية، أنّ الفنان الراحل أوصى بعدم إقامة عزاء له، ولم يكن ذلك صحيحاً، لأنّ ابنه الفنان أحمد سعيد عبد الغني أقام العزاء أمس في مسجد «عمر مكرم»، أيضاً ردّدوا أنّه أوصى برصد مبلغ 70 مليون جنيه من ثروته لمرضى السرطان، والفنان الكبير لم يكن في الحقيقة يمتلك حتى ربع هذا المبلغ حتى يوصي به.
لا أتصور أن هؤلاء الذين ينتمون لـ«صاحبة الجلالة» سيسارعون بالاعتراف بالخطأ في توثيق المعلومة من مصادرها.
حدث قبل نحو أربع سنوات، أن سارعوا بالنشر على لسان عمر الشريف بعد ساعات قلائل من وداع فاتن حمامة، أنّ سر عدم حضوره الجنازة أنّه كان يخشى الزحام، فقرّر أن يكتفي بقراءة الفاتحة، وبعد عام ونصف العام، نكتشف أنّها كذبة، وذلك عند رحيل عمر الشريف، حين قال ابنه طارق إنّ والده ظلّ حتى رحيله لا يدرك أنّ أمه (فاتن) قد سبقته للعالم الآخر، بسبب إصابته بالزهايمر، فكان يسأله دائماً حتى أيامه الأخيرة عن أخبارها وصحتها.
عبر التاريخ، هناك الكثير من المعلومات الخاطئة التي أصبحنا نتعامل معها باعتبارها حقائق، ونبني عليها أيضاً الكثير من التحليلات، مثل أن الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي طلب من الموسيقار محمد عبد الوهاب وأم كلثوم التعاون في أغنية «أنت عمري»، الأمر الذي كان يبدو أقرب إلى قرار من السلطة السياسية لا يحتمل التأجيل، على الرّغم من أنّ الحقيقة تكذّب ذلك، والدّليل مثلاً أنّ أم كلثوم عندما وجدت أنّ عبد الوهاب قد تباطأ في إنجاز اللحن، اتصلت بالموسيقار كمال الطويل لتلحين «أنت عمري»، فهل كانت تجرؤ على مخالفة أمر رئيس الجمهورية؟ صحة الواقعة أنّ اللقاء جرى بمبادرة من أم كلثوم؛ أرسلت لعبد الوهاب، عازفَ الكمان أحمد الحفناوي، الذي كان صديقاً للطرفين، والذي داعب عبد الوهاب قائلاً: هل شعرت بـ«زغوطة» أمس؟ وهو تعبير مصري شائع يعني أنّ «هناك من يجيب في سيرتك». فقال له عبد الوهاب ضاحكاً: هو أنت؟ أجابه: لم أكن بمفردي، أم كلثوم وأنا كُنّا في سيرتك، وقالت لماذا لا تلحن لها؟ أجابه عبد الوهاب: «يا ريت»، وكان بالفعل بصدد تلحين «أنت عمري» ليغنيها بصوته، ولكن أمام رغبته في اللقاء بأم كلثوم تنازل عن اللحن لأم كلثوم، محققاً ذروة النجاح الجماهيري.
كذبة أخرى طرفها هذه المرّة الرئيس أنور السادات، عندما ذهب صباح يوم 23 يوليو (تموز) من عام 1952 للإذاعة المصرية لإعلان البيان الأول للثّورة، التقى المطرب الشعبي محمد رشدي على سلّم الإذاعة. وكان رشدي صاعداً هو والفرقة للغناء على الهواء، سأله ما الذي ستغنيه؟ أجابه «اللي انكتب ع الجبين»، قال له السادات: «يا رشدي مصر سعيدة، غنّي أحسن (قولوا لمأذون البلد)». قال لي الإذاعي الكبير فهمي عمر، مد الله في عمره، وكان هو المسؤول عن بث الهواء في هذا اليوم، إنه لم يحدث شيء من هذا القبيل، ورشدي لم يغنّ «لا اللي انكتب ع الجبين» ولا «قولوا لمأذون البلد».