ما هو الخطأ الذي ارتكبه الرئيس مانويل ماكرون في عام 2018؟ وإلى أي مدى تؤثر الأحداث الجارية في فرنسا على وضعها الدولي؟ ما هو المتوقع لفرنسا والمتوقع منها في عام 2019؟
استفاد الرجل الذي انتخب في مايو (أيار) 2017 من مزيج الحظ الوافر والحس السياسي السليم. فالغالبية العظمى من الشعب الفرنسي أرادت الخلاص من الطبقة القديمة من السياسيين الذين فشلوا في إيجاد حلول عملية لتحديات العصر. وماكرون كان فطناً بما يكفي ليقدم نفسه بوصفه الوافد الجديد، وصور نفسه على أنه التكنوقراطي المتمكن، وهي الصورة التي تروق كثيراً للناخب الفرنسي.
اللافت أن نقطة ضعف ماكرون المتمثلة في عدم انتمائه إلى حزب سياسي باتت نقطة قوته الأبرز، وكان فطناً أيضاً بما يكفي لأن يدرك أن الناخبين ليسوا مستعدين بعد لمساندة اتجاه راديكالي بحت، خصوصاً تبني فكرة «فريكسيت» على غرار «بريكسيت» عندما أرادت بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي. لعب ماكرون دور التكنوقراطي البراغماتي، المناصر لأوروبا والمناصر للعولمة، ذلك على الرغم من إيمانه الراسخ بالتقاليد القومية واحتفائه بأمجاد فرنسا وبفكرة تنصيب رئيس أشبه بـ«ملك منتخب».
أخذ نجمه في البريق لشهود عدة، وعلى العكس من التشخيص الذي أفرزته استطلاعات الرأي، فاز حزبه الجديد «الجمهورية إلى الأمام» بالانتخابات وبأغلبية معقولة في البرلمان على الرغم من حداثة عهد أعضاء حزبه بالسياسة. تمكن ماكرون من إحداث تغيير كبير في سوق العمل من دون معارضة كبيرة بما يتوافق مع ما تضمنه البرنامج الانتخابي للحزب، ونجح في إصلاح أوضاع خطوط السكك الحديدية على عكس التوقعات. نجح ماكرون أيضاً في إعادة رسم صورة فرنسا على المسرح العالمي. وفي لحظة ما بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، برز إيمانويل ماكرون باعتباره صوت أوروبا والأمل الأكبر في حماية النظام الليبرالي العالمي في ظل ضعف المستشارة الألمانية ميركل بسبب مشكلات بلادها الداخلية وانشغال رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي بالانتحار القومي الذي عرف باسم «بريكسيت».
حدث التحول المفاجئ في نهاية الربيع وبداية صيف 2018. ففي الجبهة الداخلية، وإثر حادث بسيط يتكرر أحياناً عندما يقوم أحد أفراد الطاقم المعاون لرئيس الدولة، وأحياناً المساعدون الشخصيون الذين قد يصدر عن أحدهم تصرف غير مسؤول (في تلك الحادثة تحديداً قام حارس ماكرون الشخصي بالاعتداء على متظاهر سلمي، رغم أن ذلك لم يكن من صميم عمله، حيث انتحل صفة ضابط شرطة)، وهو ما تسبب في حرج بالغ للرئيس وأنصاره.
تسبت «قضية بنالا» - نسبة إلى حارس الرئيس أليكساندر بنالا ذي الأصول المغربية - في تغيير المناخ العام كلياً. فبدءاً من هذه الفضيحة (وإن كانت أقل حجماً)، أصبحت كل كلمة ينطق بها الرئيس مثار جدل، وكل إجراء تتخذه حكومته كان يلقى معارضة شعبية. الشيء نفسه حدث في الجانب الاقتصادي، حيث تلاشت أمنيات تحقيق نمو اقتصادي، وعاودت نسب البطالة الارتفاع.
حل الشتاء وتسبب إجراء واحد من قبل الحكومة - رفع الضريبة على الوقود - في اندلاع مظاهرات «السترات الصفراء». لم يلحظ أحدٌ المكان الذي انطلقت منه حركة «السترات الصفراء»، وعلى عكس التوقعات، خرجت هذه الحركة من الريف والمدن الصغرى، لكنها لقيت تأييداً من الأغلبية التي وصلت إلى 80 في المائة من إجمالي السكان، رغم أن مظاهراتهم تسببت في شل الحركة في باريس في الكثير من أيام السبت وفي حالات عنف مرعبة في بعض الأحيان. وجد الرئيس نفسه مجبراً على إعلان التراجع والاعتراف بأخطائه، والوعد بأن يكون أقل ملكية والقبول برفع الحد الأدنى للأجور، وغيرها من الإجراءات الهادفة إلى تحسين القوة الشرائية والارتقاء بمستوى الطبقات الدنيا والمتوسطة.
ما من أخبار سارة على الصعيد الدولي؟ قبل فترة طويلة من احتجاجات «السترات الصفراء»، ولأسباب قد لا تتعلق بفرنسا، بدأت سياسة ماكرون الأوروبية تتكشف. فالألمان، وبلدان الشمال الأوروبي عامة، لم يكونوا مستعدين لمساندة مقترحات ماكرون بشأن تعزيز منطقة اليورو، واتضح أن الانتخابات في النمسا وإيطاليا قد جلبت إلى السلطة تلك النماذج الشعبوية المفترض أن ماكرون قد هزمها في فرنسا. فقد جاءت «بريكسيت» لتزيد من عزلة فرنسا في أوروبا فيما يخص السياسة الدولية، وعجز الموازنة المتزايد لن يكون في صالح مصداقية باريس في بروكسل. ومع ترمب، باتت الأمور أصعب وأصعب، فقد اعتاد ماكرون التباهي بقدرته على تعزيز علاقته الشخصية مع ترمب، وفي الوقت نفسه أن يكون الخصم الأبرز لسياساته. فقد تضايق ترمب من الطريقة التي عُومل بها في باريس خلال احتفالات ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى، ومنذ ذلك الحين بات ينتهز كل فرصة متاحة للتغريد ضد ماكرون كما يفعل مع الكثير من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين.
بالنسبة لفرنسا، فإن قرار ترمب الانسحاب من شمال شرقي سوريا يمثل ضربة موجعة لمصالحها الأمنية (الكثير من المتطرفين ما زالوا أحراراً في التنقل عبر ضفتي نهر الفرات)، وبالنسبة إلى ماكرون نفسه فإن هذا الانسحاب يمثل ضربة لكرامته الشخصية لأنه كثيراً ما ضغط على ترمب كي يبقي على القوات الأميركية هناك. فهو يرى أن بسط بعض النفوذ على هذا الجزء من سوريا يعكس نفوذ الغرب في دمشق، ونفوذهم في مواجهة الهيمنة الإيرانية على المنطقة. ولذلك فإن تعزيز الموقف الفرنسي تجاه سوريا سيكون ضمن قمة أولويات فرنسا عام 2019، وستعزز الدبلوماسية الفرنسية تواصلها مع الأتراك، وربما تسعى إلى تعزيز أواصر التعاون مع إسرائيل وروسيا، التي تمثل همزة الوصل مع تركيا التي سيخلفها الانسحاب الأميركي وراءه، وكذلك التعاون مع دول الخليج وإيران، وجميعها ستكون ضمن تبعات الانسحاب الأميركي.
ستتضمن الأجندة الفرنسية أولويات تعزيز الدبلوماسية الفرنسية خلال الشهور المقبلة، الأولى هي الانتخابات الفرنسية المقررة في مايو (أيار) المقبل، التي ستكون لحظة فارقة أخرى في الصراع بين الشعوبية والاتجاه العام المناصر لأوروبا. وستحدد نتائج الانتخابات شكل المؤسسات الأوروبية في بروكسل بعد خروج بريطانيا من المنظومة. ثانياً، رئاسة دول مجموعة السبعة الكبار والقمة الاستثنائية نهاية أغسطس (آب) في بيارتيز، وبعدها النسخة الثانية «من منتدى باريس للسلام» في نوفمبر (تشرين الثاني)، وجميعها تمثل أولويات بالنسبة للدبلوماسية الفرنسية في المرحلة المقبلة.
بالتأكيد تسببت الأحداث الجارية في فرنسا في شعور ماكرون بالضآلة، والأيام المقبلة ستوضح ما إذا كان سيركز جهده إلى الداخل على حساب دور فرنسا الخارجي، أم أن الاضطرابات الداخلية ستزيد من قناعاته بأهمية تعويض ذلك بتعزيز الدور الخارجي لفرنسا. لا ينبغي على ماكرون الجزع بشأن صورة فرنسا في الخارج بسبب «السترات الصفراء». صحيح أن تلفزيونات العالم وكذلك تغريدات «تويتر» قد تلاعبتا كثيراً بفكرة أن «باريس تحترق»، لكن يمكن النظر إلى ما يحدث على أن فرنسا في عهد ماكرون تمر بمرحلة بعث جديد، أو في أسوأ الأحوال على أنه مرض انتشر بين دول العالم المتقدم. القادة الآخرون يدركون ذلك جيداً، فهم يعلمون أنه ما من دوله يمكنها أداء الدور الذي تؤديه فرنسا للمساهمة في تعزيز استقرار النظام العالمي.
8:32 دقيقه
TT
2019: فرنسا في مرحلة «بعث جديد»... وماكرون يركز على الخارج
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة