د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

التجربة الأسترالية

منعزلة هي عن العالم، جغرافياً على الأقل، بعيدة عن ضوضاء الحروب والأزمات السياسية، هذه الخاصية التي بدت في كثير من الأحيان وكأنها نقمة عليها، إلا أنها في كثير من الأحيان تثبت أنها نعمة حباها الله بها. هي أستراليا، الدولة القارة التي لا يتجاوز عدد سكانها 25 مليون نسمة ولا تربطها حدود جغرافية بريّة بأي دولة أخرى. عانت أستراليا اقتصادياً كغيرها من الدول البعيدة جغرافيا، وإن كانت دول أميركا اللاتينية عوّضت هذا البعد بالقرب من الولايات المتحدة، فإن أستراليا عوضته بالقرب من الصين واليابان.
ولا يتصور أحد - بالنظر إلى الاقتصاد الأسترالي اليوم - ما كانت عليه أستراليا قبل عقود من الزمن. فمنذ الستينيات الميلادية وهي غارقة في دوامات اقتصادية، حتى صرح رئيس الوزراء السنغافوري وقائد النهضة السنغافورية لي كون يو عام 1980 أن أستراليا في طريقها لتكون «قمامة آسيا» بسبب زيادة معدل البطالة وخروج التضخم عن سيطرة الحكومة الأسترالية، ولم تكن هذه الجملة مبالغاً فيها كما علق رئيس وزراء أستراليا بعد ثمانية أعوام من ذلك التصريح.
ومنذ النصف الأول من الثمانينيات، أطلقت الحكومة الأسترالية حزمة من الإصلاحات الاقتصادية، وسوّقت لهذه الحملة أمام الشعب الأسترالي بشكل واضح وشفاف، ففي عام 1986 صرح وزير المالية آنذاك - ورئيس الوزراء لاحقاً - بول كيتنج أن أستراليا إن لم تتدارك وضعها الاقتصادي، ستصبح إحدى دول العالم الثالث بلا شك. ورغم قسوة هذا التصريح، فإنه كان بداية لتوضيح منهج الحكومة آنذاك، والذي قاد أستراليا إلى تحول اقتصادي عظيم.
وكان من ضمن الإصلاحات الاقتصادية حينها تعويم الدولار الأسترالي وبالتالي انخفاضه، مما أدى إلى زيادة تنافسية الصادرات الأسترالية. إضافة إلى تحرير المؤسسات المالية من القيود المفروضة عليها، وخفض الرسوم الجمركية بشكل تدريجي على الواردات بهدف التحكم في التضخم وزيادة التنافسية مع المنتجات المحلية. كما أعيد تنظيم المؤسسات الحكومية بشكل يزيد من شفافيتها، والتركيز على الصناعات المحلية وسوق العمل حتى تنخفض معدلات البطالة.
وقد عانى الاقتصاد الأسترالي من موجات ركود في السبعينيات والثمانينيات، وبداية التسعينيات، وكان ركود عام 1991 هو آخر ركود مر بالاقتصاد الأسترالي، ومنذ تلك السنة وحتى اليوم، والاقتصاد الأسترالي في نمو مطّرد، حتى أصبح الأستراليون يفاخرون أنه في آخر ركود اقتصادي لهم، لم يكن الاتحاد السوفياتي قد سقط، ولم تكن الشبكة العنكبوتية متاحة. ولا يعني ذلك أن اقتصاد أستراليا لم يمر بتقلبات، فهو تأثر بالأزمات والدوائر الاقتصادية كغيره من اقتصادات العالم، إلا أن تأثره كان بسيطاً نظراً لمتانته وحكمة القائمين عليه إضافة إلى انعزال أستراليا عن كثير من المتغيرات العالمية... وحتى مع قربها من الأسواق الآسيوية، خرجت أستراليا من الأزمة الآسيوية عام 1997 دون تأثر ملحوظ وهو ما يعتبر معجزة اقتصادية.
وفي يومنا هذا، يعد الاقتصاد الأسترالي في المركز الرابع عشر عالمياً من ناحية الحجم، ويبلغ الدين العام الأسترالي 41 في المائة من إجمالي الناتج القومي، أقل من ألمانيا (64 في المائة)، وكندا (90 في المائة)، واليابان (238 في المائة). بتضخم يقل عن 2 في المائة، ومعدل بطالة يبلغ 5 في المائة، ونمو اقتصادي يزيد على 2.8 في المائة. واستفادت أستراليا كثيراً من نهضة الصين التي تعد الشريك الاقتصادي الأول لأستراليا، كما أنها وثقت علاقتها الاقتصادية بالأسواق الآسيوية والعالمية، منوعة بذلك من شركائها الاقتصاديين، كما نوّعت قبل ذلك في مواردها الاقتصادية بين التعدين والتصنيع والزراعة، مستفيدة من مساحاتها الشاسعة التي تتيح لها القيام بكل هذه الأنشطة الاقتصادية.
إن التجربة الاقتصادية الأسترالية ملهمة بأشكال عدة، فقد خرجت بها حكومتها من هاوية اقتصادية ظن الكثيرون أنها لن تستطيع الخروج منها، واتبعت في ذلك أسلوباً يتناسب مع خصائصها الجغرافية والسياسية. وما يؤكد التميز الأسترالي في سياساتها، طريقة تعاملها مع المهاجرين، ففي الوقت الذي تتذمر فيه دول العالم من المهاجرين إليها، تستقبل أستراليا سنويا ما يقارب 190 ألف مهاجر، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف المهاجرين إلى الولايات المتحدة نسبة إلى عدد السكان. وليست هذه السياسة بجديدة على أستراليا، فما نسبته 28 في المائة من الشعب الأسترالي ولد خارج أستراليا، ونصف سكان أستراليا إما ولدوا خارج أستراليا أو من أبوين ولدا خارجها. ولم تعزَ نسب البطالة في السابق إلى المهاجرين من خارج أستراليا، لأنها ببساطة لم تكن السبب في ذلك، والدليل على ذلك هو انخفاض معدل البطالة مع الإصلاحات الاقتصادية، حتى مع استمرار قدوم المهاجرين إليها، الذين استطاعت الحكومة الأسترالية احتواءهم في منظومتها الناجحة والاستفادة منهم بشكل يدعم نموها الاقتصادي.