إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

مارتشيلو في النافورة

قبل 70 عاماً، ظهر على الشاشة الإيطالية وجه جديد يؤدي دور شاب ثائر في فيلم مأخوذ عن رواية «البؤساء». كان الممثل وسيماً أكثر من اللازم. وسامة تثير غيرة النساء أكثر مما تغويهن. لكن المعجبات حفظن اسمه: مارتشيلو ماستروياني. جيء به من صفوف الكومبارس وأعطي دوراً حقيقياً. ومنذ ذلك اليوم، حتى رحيله في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات ونيّف، لم يبخل الممثل بنظرته الدافئة على جمهوره من الجنسين، داخل إيطاليا وخارجها.
تدخل المعجبات إلى المعرض المخصص له، حالياً، في روما وكأنهن ذاهبات إلى موعد حب. أغلبهن تجاوز الخمسين. وبينهن صبيات صغيرات ورثن الشغف من أمّهاتهن وربما من جدّاتهن. يتفرجن على الصور ويدققن في لقطات ماستروياني مع الساحرة صوفيا لورين، أو منافستها جينا لولو بريجيدا. يتوقفن أمام صورة أخاذة بكاميرا جينا، النجمة هاوية الفوتوغرافيا. ففي استراحة بين اللقطات، أثناء تصوير فيلم «القانون» عام 1959. تمددت على رمال الشاطئ وأخذت لشريكها في الفيلم صورة من زاوية منخفضة، يبدو فيها واقفاً على حافة قارب خشبي، بـ«البيجاما».
صار مارتشيلو التجسيد الأبهى للحبيب اللاتيني، ذلك الذي يُضرب به المثل. غير أنه لم يبلغ مبلغ عاشق عربيّ، فلا هو جنّ مثل قيس بن الملوّح ولا همّ بتقبيل السيوف، مثل عنترة. درس الهندسة المعمارية وتردد على المسارح من وراء ظهر العائلة وقام بأدوار لا تُذكر. وبعد صعود موسوليني اضطر إلى التخفي لأن عائلته كانت ضد الفاشية. وبعد انتهاء الحرب طوى صفحة الهندسة وسجّل نفسه في معهد للمسرح. هناك التقى بالمخرج فيسكونتي الذي أعطاه دوراً في «عربة اسمها الرغبة». مسرحية تنيسي ويليامز ذاتها التي نُقلت للسينما وقدّمت لجماهير الطيبين والطيبات ساحراً آخر: مارلون براندو. وبفضل المسرح تعرّف ماستروياني على الممثلة جولييتا ماسينا، وكان التعارف حاسماً في مسيرته فقد قدّمته إلى زوجها. المخرج فيلليني.
مع فيلليني قام ماستروياني بواحد من أشهر أدواره في فيلم «الدولتشي فيتا». صارا صديقين ووصف الممثل طريقة عمل المخرج بالقول: «مع فيلليني أنت في حلبة سيرك». كل ذلك تراه في المعرض. وتبلغ الجولة أوجها في الصالة المخصصة لذلك الفيلم. تطالع صوراً مثيرة وملصقات مختلفة وتخطيطات بقلم المخرج وشاشة كبيرة تعرض في العتمة ذلك المشهد الخرافي للممثلة السويدية أنيتا إيكبرغ وهي تخوض ليلاً في مياه نافورة «تريفي» في روما، داعية حبيبها إلى ملاقاتها وهي تمطّ اسمه مثل لبان لدن: «مارتشيلو تعال». ومارتشيلو بالبدلة وربطة العنق والحذاء اللامع، يلبي النداء وينزل إليها دون اكتراث بدهشة تماثيل القديسين المنحوتة حولهما.
يوم رحيل ماستروياني، أمرت الحكومة الإيطالية بحجب تماثيل النافورة بغلالات سود. والإفراط في التوثيق ينزع عن الحلم هالته. وها هي صورة أحد المساعدين وهو يجفف بالفوطة ساقي أنيتا، بعد التصوير، وقد غطت ظهرها العاري بمنشفة ثانية. لا شك أن الدنيا خارج الكاميرا غير الدنيا أمامها. وبعد ذلك الفيلم قالت الممثلة إن دورها فيه أفسد حياتها. كل دور آخر بات يبعث على الضجر. ثم إن البطل لم يقع في غرامها، ولو لضرورات الترويج للفيلم. إن لماستروياني زوجة انفصل عنها ولم يطلّقها طيلة عمره. حتى حين صعقته الأميركية فاي دونواي. ثم التقى بالفرنسية كاترين دينوف وأنجب منها ابنته كيارا. ولعل الفعل «أنجب» لا يصح على كل المواليد. فهناك من ينشأ نجيباً يستحق المفردة، وهناك لا. لكن كيارا تستحق. فهي سارت على خطى مارتشيلو وصارت ممثلة مجتهدة. ومن شابهت أباها ما ظَلَمَت.