أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

إفقار النقاش السياسي الجاد

مع اقتراب نهاية عام 2018، ما هي الاتجاهات التي سُلط عليها الضوء في الحياة السياسية؟
يمثل الاتجاه الأول السخط العالمي المتنامي حيال المنظمات الدولية لصالح الدولة القومية التقليدية. ويعتبر أنصار الوضع الراهن هذا الاتجاه تصعيداً للشعبوية ويحكمون عليه باعتباره انتكاسة شديدة للتقدم البشري مهما حمل ذلك من معانٍ غامضة.
واليوم، ليست الأمم المتحدة وحدها هي من تراجعت إلى خلفية الأحداث بشأن القضايا الرئيسية في الحياة الدولية. فلقد لجأت العديد من أذرعها العاملة، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلى ظلال المجد العتيد. وفي تسعينات القرن العشرين، حظيت هاتان المؤسستان بنفوذ هائل على اقتصادات أكثر من 80 دولة حول العالم مع مزيج من الآيديولوجيا والتدفق الائتماني.
أما اليوم، وبرغم كل شيء، تراجع نفوذ تلك المؤسسات إلى مستوى الضجيج الفارغ أو التنابز بالألقاب من جانب حلبة الصراع.
ومن الواضح أن الاتحاد الأوروبي كذلك بات في حالة تراجع واضحة. فعلى الرغم من الأحاديث المفرطة في التفاؤل بإنشاء الجيش الأوروبي الموحد، وتوثيق العلاقات بين الدول الأعضاء في الاتحاد، خسر الاتحاد الأوروبي الكثير من جاذبيته الأساسية وبات يواجه جملة من التحديات الفاصلة التي يعتبر ما يسمي بـ«البريكست» البريطاني أحد أمثلتها المبكرة. وأعتقد أن السبيل الوحيد لنجاة الاتحاد الأوروبي، ناهيكم عن الازدهار والترقي، هو إعادة صياغة الذات كمنتدى للدول القومية عوضاً عن أن يكون بنفسه بديلاً عنها.
وقبل أقل من عشر سنوات ماضية، زعم الفيلسوف الألماني يورغن هيبرماس والبابا الألماني الأصل بنديكت السادس عشر أن الدولة القومية قد لاقت حتفها، وأنه في أوروبا على أقل تقدير، فإن السبيل إلى الخلاص كان إحياء العقيدة الدينية المسيحية على اعتبارها رابطة ثقافية إن لم تكن عقيدة تقليدية.
ومع ذلك، فإن الاتجاه صوب التراجع كان له تأثيره الواضح كذلك على كافة الكنائس المسيحية تقريباً، ولا سيما أين ومتى حاولوا إضفاء صفة الفعل السياسي على أنفسهم.
ويمكن تلمس تراجع مماثل في كافة التجمعات الدولية الأخرى التي تتراوح بين الاتحاد الأفريقي إلى منظمة الدول الأميركية، ومروراً بجامعة الدول العربية، والكتلة الأوراسية بقيادة روسيا، والسوق الأميركية الجنوبية المشتركة (ميركوسور).
وهناك اتجاه آخر بارز يتعلق بالانهيار الافتراضي لكافة الأحزاب السياسية تقريباً في جميع أرجاء العالم. حتى في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، اللتين تتمتعان بأعرق التقاليد المعروفة في السياسات الحزبية وأكثرها تعمقاً ورسوخاً، تزلزل النظام بشدة هناك.
في الولايات المتحدة، تحول الحزب الديمقراطي إلى مزيج من الجماعات من الماركسيين المفترضين إلى الليبراليين المتألمين، والذين لا يربطهم شيء أكثر من الكراهية المشتركة للرئيس الحالي دونالد ترمب. ومن جانبه، فإن الحزب الجمهوري، الذي اهتز جراء ما يسمى بـ«حفل الشاي» الشهير، كان قد تدنى إلى مستوى الدور الثانوي بالنسبة إلى «الثورة الترمبية» ذائعة الصيت.
وفي بريطانيا العظمى، نجح «البريكست» في تقسيم الحزبين الكبيرين في البلاد، حزب المحافظين وحزب العمال، إلى ثلاثة فصائل من شأنها، بمرور الوقت، أن تتحول هي الأخرى إلى أحزاب سياسية مستقلة. وعلى مدى قرنين من الزمان، كانت السلطة البريطانية تستند بالأساس إلى استقرار المؤسسات السياسية، ومقدرة النخبة السياسية على مواجهة كافة التحديات من خلال الارتباط القوي بسيادة القانون بالإضافة إلى الاعتدال. ولقد اهتز هذا الصرح البريطاني الشامخ بسبب «البريكست».
وفي فرنسا وإيطاليا، نازعت الأحزاب المتمردة السلطة مبتعدة بها عن معينها التقليدي في البلاد. ففي فرنسا، دُفعت الأحزاب الديغولية والاشتراكية التي حكمت البلاد على مدى سبعة عقود كاملة إلى الهامش بواسطة حركة «الجمهورية إلى الأمام» بقيادة إيمانويل ماكرون والتي تهتز الآن تحت وطأة حركة «السترات الصفراء» المتمردة.
وفي إيطاليا كذلك، خرجت كافة الأحزاب التقليدية من المشهد السياسي على أيدي الجماعات الشعبوية من تيار اليمين واليسار على حد سواء.
وفي ألمانيا، قطع حزب «البديل لألمانيا» الطريق على الانقسام بين تيار اليمين واليسار ليفوز بالدور القيادي في السياسات الوطنية. حتى الحزب الإقليمي الراسخ مثل الاتحاد الاشتراكي المسيحي قد بات في تراجع مستمر في قاعدته الرئيسية في ولاية بافاريا.
وفي غضون العام الحالي الذي قارب على الانتهاء، تمكن عدد من الأحزاب الحديثة للغاية من الوصول إلى مراكز السلطة في عدد من البلدان الأوروبية ومن أبرزها المجر، وبولندا، والتشيك، وسلوفاكيا، وهولندا، والسويد.
ومن المثير للاهتمام في هذا السياق، كلما اهتم الحزب بالمنحى الآيديولوجي كان أكثر ضعفاً في مواجهة الاتجاه السائد المتراجع في السياسات الحزبية. وهذا هو السبب في أن كافة الأحزاب الشيوعية والقومية قد تلاشت أو تراجعت كثيراً إلى ظلال المجد التاريخي القديم.
ولم تحقق الأحزاب الانفصالية، بما في ذلك بلاد الباسك وكاتالونيا في إسبانيا، أي نتائج سوى تلك الطفرة الشوفينية ضمن الأغلبية القشتالية السائدة. وهناك اتجاه آخر برز في عام 2018 يتعلق بظهور سياسات القضية الواحدة، ليحل محل النقاش القائم بشأن السياسات الشاملة الكبيرة، كقاعدة عامة مقبولة لدى العديد من البلدان.
ومرة أخرى، كان «البريكست» البريطاني من أكثر الأمثلة وضوحاً على ذلك. ويبدو أن أولئك الساعين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي على استعداد تام لتجاهل كافة القضايا الأخرى على شرط التمكن من تعزيز والترويج لذلك المسعى الوحيد، ولا نريد وصفه بالهوس الجامح من طرفهم.
منح التطور الهائل في الفضاء السيبراني سياسات القضية الواحدة دفعة تعزيز غير متوقعة. واليوم، يمكن لأي شخص في أي مكان في العالم أن ينشئ غرفة للصدى حول موضوع يهمه شخصياً ويتعلق بمشروع حماية إحدى فصائل الحيوانات المعرضة للانقراض، والانغلاق عن العالم الخارجي تماماً والابتعاد عن مخاوفه وشواغله الجمة لقاء التركيز على هذه القضية. وهنا، يكون الهدف هو القتال من أجل الاختلاف مع أكبر قدر ممكن من التعاطف والشغف المصطنع. ويتناقض هذا الاتجاه مع اتجاه ظاهر آخر تروّج له وسائل الإعلام التقليدية أو الرئيسية التي تطرح سرداً موحداً للأحداث.
وليقم أحدنا بتشغيل أي قناة تلفزيونية أو إذاعية أو مطالعة أية جريدة أو مجلة وسوف يُفاجأ بأنها جميعاً تقول نفس الشيء حول نفس القضية أو نفس الحدث. ويرجع السبب في ذلك إلى التراجع الحاد في الصحافة الميدانية، التي ترجع في الغالب إلى القيود الاقتصادية، إذ يتحتم على وسائل الإعلام السائدة الاعتماد على بوصلة ضيقة للغاية توفرها بعض الوكالات الإعلامية و / أو الصحافيين «الوطنيين». وهذا، بدوره، يعمل على تشجيع الاعتقاد المتنامي بأن الحقائق ليست إلا حفنة من الآراء يجري الإعراب عنها من خلال الشعارات.
يُفضي كل ذلك إلى إفقار النقاش السياسي الجاد. وأسفر إضعاف الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، والهيئات الدولية، والمؤسسات الوطنية مثل البرلمانات، التي توفر المنصات المحترمة للنقاش وصنع القرار، عن حرمان المجتمعات من المجال والآلية المطلوبة لتناطح الأفكار والتنافس الآيديولوجي بين مختلف الخيارات السياسية المطروحة.
والأنباء السيئة في هذا السياق أن عام 2018 لم يكن عاماً جيداً بالنسبة للسياسات التعددية. والأنباء السارة تقول أن عام 2019 المقبل قد يكشف أوجه القصور والعيب الأساسية في الشعبوية الفئوية المزرية.