أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

أمنيات السوريين في العام الجديد

رغم الشروخ والتباينات التي كرّسها العنف المنفلت في طريقة عيش السوريين وهمومهم وتالياً في أحلامهم وأمنياتهم، ورغم ازدياد أعداد السلطويين الذين لا تهمهم آلام الآخرين، ويتباهون بقتل البشر وتخريب الوطن، بصفتهما «انتصاراً» يزيل من طريقهم من يعدّونهم حثالة لا مكان لهم في «مجتمعهم النظيف»!... فإنه يصح القول إن ثمة إحساساً مشتركاً لدى غالبية السوريين بأن السنة المقبلة لن تكون أقل سوءاً، وبأن أمنياتهم سوف تقتصر فقط على تخفيف ما يكابدونه، تحدوهم معطيات سياسية وعسكرية لا تبشر بالخير، بل تنذر بمزيد من الإمعان في قهر إنسانيتهم وسحق أحلامهم، وتشي باستمرار مشهد يدمي القلوب من هول الدمار وأعداد الضحايا والمفقودين، ومن شدة معاناة المنشغلين بلملمة جراحهم وتسكين آلامهم من أجل استمرارهم في الحياة، سواء أكانوا لاجئين ومهجرين خارج الحدود، أم نازحين داخل الوطن، أم تفادتهم دوامة العنف ويجاهدون لتدبير لقمة عيشهم في ظروف أمنية واقتصادية شديدة القسوة.
فأي أمنيات يمكن أن تنتاب اللاجئين السوريين حين يجبرون على العيش في معازل ومخيمات لا تليق بالبشر، وحين تتفاقم معاناتهم من النبذ والإقصاء، ومن هشاشة حياتهم بلا مؤسسات أو عمل، ويغدو مصيرهم رهينة المعونة المقدمة من منظمات الإغاثة الدولية العاجزة عن تلبية أدنى احتياجاتهم؛ من الغذاء والملبس والتعليم والرعاية الصحية، خصوصاً للأطفال والفتيات؛ الأكثر عرضة للأمراض وللاستغلال الجسدي والضياع؟ وأيضاً حين تتصاعد دعوات استبعادهم قسرياً، في مناخ يشي بتواطؤ عام لإرغامهم على العودة إلى بلادهم من دون توفير أبسط الضمانات الأمنية والإنسانية، مدعوم بتنامي ظواهر شعبوية وعنصرية يسقط أصحابها من أولوياتها واجب الدعم والتعاطف مع ما يكابده بشر يشبهونهم ويستحقون مثلهم الحياة على سطح هذا الكوكب؟!
وأي أمنيات للنازحين داخل الوطن حين تراهم يتلوون ألماً في بحث قاسٍ ومضنٍ عن ملاذ يؤويهم وقد باتوا بلا مأوى أو في حالة عوز شديد بعد أن فقدوا كل ما يملكون أو يدخرون، ليكره بعضهم على التسوّل، وغالباً على قبول أعمال وضيعة ومذلة لتأمين قوت يومهم؟! أو حين تلاحق بعضهم الآخر عقدة الخوف من الاعتقال والتعذيب بسبب انتمائهم إلى إحدى المناطق المتمردة، حتى صاروا يجدون الموت أرحم مما يكابدونه من خوف وقهر وجوع؟! وأيضاً حين يتعرض آخرون لمختلف صنوف الإذلال والابتزاز في سعيهم لمعرفة مصير أحبتهم المختفين قسراً، بينما أياديهم على قلوبهم خوفاً من خبر مفجع تسربه أجهزة الأمن يضم هؤلاء المفقودين إلى لوائح القتلى في السجون والمعتقلات؟!
ومع انتشار حواجز مسلحة رعناء تزرع الخوف عند السوريين القابعين في مناطق سيطرة النظام، ويمكنها اعتراض أي مواطن وابتزازه وحتى تقرير مصيره كما يحلو لها من دون خوف من المساءلة والحساب، ومع التردي الكبير في شروط الحياة في ظل تفشي غلاء فاحش، وتفاقم مشكلات تأمين مستلزمات التدفئة، كالغاز والمازوت، والانقطاع المتواتر للماء والكهرباء، وتهتك البنية الخدمية والصحية والتعليمية، فهل من أمنيات يمكن أن تعتمل في صدور هؤلاء السوريين، سوى تخفيف القبضة القمعية وكف بلاء المسلحين المتنمرين عنهم، وذلك قبل الحديث عن آمالهم المشروعة بتحسين الخدمات وفرص تأمين أبسط الحاجات الضرورية للاستمرار في الحياة؟!
وأيضاً، هل من أمنية للسوريين الذين حكم عليهم بالعيش في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، غير الخلاص من ذلك الوضع المزري، حيث ينهكهم الحصار وتنهال عليهم القذائف والبراميل المتفجرة، ويتهددهم اجتياح سلطوي وإيراني مرة؛ وتركي مرة ثانية، وحيث يُستخدمون حطباً ووقوداً لتسعير معارك التنافس بين جماعات إسلاموية متطرفة تسعى كل واحدة منها لفرض ما تعتقده شرع الله على الأرض، متوسلة فتكاً وقهراً لم يقف عند إرهاب البشر وإرغامهم على اتباع نمطها في الحياة وإنزال أشنع العقوبات بحق من يخالف ذلك؛ وإنما وصل لحد فرض الإتاوات ومناهج عدوانية تلقن للأطفال ولا تمت بصلة لمنطق العلوم والمعارف، والأهم اعتقال المعارضين السياسيين والتنكيل بهم واغتيال الناشطين المدنيين والإعلاميين؟!
وبلا شك، سوف يعود المرء بخفي حنين عند التفتيش لدى السوريين عن أمنية بأن يشهد العام المقبل خطوات جدية لوقف العنف نهائياً والشروع في معالجة سياسية للاستعصاء القائم، لأنهم خبروا جيداً ماهية أطراف الصراع وعمق ارتهانها لإرادة الخارج، وأنها تزدري السياسة، ويفتنها خيار حربي لا يقيم اعتباراً لحيوات الناس وما يكابدونه، فكيف الحال مع إصرار المنتصر عسكرياً على فرض شروطه، لتغدو اللجنة الدستورية مثلاً، وغيرها من المبادرات، أشبه بحلقات من سلسلة الهيمنة الروسية على البلد مطعّمة بمصالح الحليفين التركي والإيراني، ويعزز هذا المسار انسحاب الوجود العسكري الأميركي من البلاد، الذي كان يعول عليه للحد من تفرد وتغول تلك الأطراف في تقرير المصير السوري.
ورغم مشروعيتها، فإنه تبدو أشبه بالوهم أمنية بعض السوريين بأن يشهد العام الجديد وقفة نقدية حازمة للمعارضة السياسية، تقترن بشجاعة الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت، وبالمجاهدة لتوحيد صفوفها وبلورة صورة صحية لمعارضة وطنية، تؤكد فيها استقلاليتها ورفضها الالتحاق بأجندة أحد الأطراف الإقليمية أو الدولية، وتظهرها قادرة، رغم اختلاف منابتها الاجتماعية ومشاربها الآيديولوجية، على التوافق وعلى احترام تنوعها والاحتكام للحوار، بعيداً عن المهاترات والشتائم وعن أساليب المبالغة والتجهيل، والأهم على احترام التزامها بخيار العدالة الانتقالية والتغيير الديمقراطي، وجهوزيتها للتضحية في سبيله، بصفته الخيار الوحيد القادر على تغذية الأمل والعزيمة بالخلاص.
ومع التأكيد على أن دوافع الثورة؛ من القهر والظلم والفساد، تزداد اليوم حضوراً ووضوحاً، تحدوها عظمة التضحيات التي قدمها الشعب السوري دفاعاً عن حقوقه البسيطة، في الحرية والكرامة والمساواة، ومع التأكيد أيضاً على خطورة الاستسلام لنوازع التشاؤم ومشاعر التحسر والإحباط التي بدأت تتغلغل في النفوس، يغدو الجواب عن نهوض جديد لهذا الشعب المنكوب أكثر من أمنية، بل أشبه بحقيقة تاريخية، تؤكدها تجارب الشعوب وما تضمره من إمكانات وفرص للنهوض من انكساراتها وهزائمها، وتعززها بذور السوريين الطيبة، التي إن سقط بعضها على الطريق وأحرقته أشعة الشمس، وحاصرت بعضها الآخر الأشواك الضارة وخنقته؛ فمنها ما نثر في الأرض الطيبة وسوف ينمو ويعطي، بلا شك، ثماره الطيبة.