حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

عن مآل الاستهداف التركي لشرق الفرات

كانت وحدات «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) تتقدم داخل بلدة «هجين» في شرق دير الزور التي تُعدُّ أبرز مواقع إرهابيي «داعش» إلى جانب بلدتي «السوسة» و«الشعفة»، وتنجح هذه القوات في تحرير آلاف السوريين من قبضة الإرهاب، عندما هدد الرئيس التركي إردوغان باجتياح شرق الفرات السورية مستهدفاً «وحدات حماية الشعب» الكردية المكون الرئيسي لـ«قسد» الذين تتهمهم تركيا بتهديد أمنها القومي!
إنها مفارقة مدهشة، منذ العاشر من سبتمبر (أيلول) 2018، تخوض «قسد» بدعم من التحالف الدولي أعنف المعارك ضد الجيب «الداعشي» في الريف الشرقي لدير الزور بمحاذاة الحدود مع العراق، وتدفع «قسد» نحو 500 قتيل لتطهير منطقة صعبة جغرافياً، تحصنت فيها المجموعات الإرهابية التي تشن الهجمات نحو الداخل السوري غرباً، ونحو الداخل العراقي شرقاً. في تزامن لافت، مع التقدم الميداني ضد الإرهاب، هدد الرئيس التركي الولايات المتحدة بهجوم واسع خلال أيام عنوانه إلغاء خطر «قوات سوريا الديمقراطية»، في إطار عملية عسكرية تركية واسعة النطاق بدأت باحتلال جيب «عفرين»، وتريد أنقرة متابعتها بالسيطرة على «منبج» وشرق الفرات، والهدف منع أي إمكانية لقيام كيان كردي، سيكون التهديد الأخطر لأمن تركيا.
ليست المرة الأولى التي تقرع فيها تركيا طبول الحرب ضد الأكراد السوريين، فما يثير الانتباه أنه كلما تقدمت المعركة ضد الإرهاب، تحركت أنقرة بما يؤثر سلباً على متابعة هذه الحرب فتحوز المجموعات الإرهابية فرصة جديدة لالتقاط أنفاسها ولاستكمال إجرامها. خاضت القيادات التركية مواجهة سياسية مع واشنطن ضد تسليح «قسد»، ورفضت أنقرة التدريب الأميركي المتقدم لنحو 40 ألفاً من هذه الوحدات، وعندما نُشرت نقاط مراقبة أميركية على الحدود مع تركيا لتطمينها، قوبلت الخطوة بغضب تركي ووصفت بأنها حماية للقوات الكردية. لكن اللافت أن التهديدات اليومية أرفقت هذه المرة بخطوات على الأرض، عندما حشدت أنقرة قوات ضخمة على الحدود، وبدت ظاهرة للعيان أرتال الدبابات، وترافقت مع حشد المخابرات التركية وحدات «الجيش الحر» التابع لها الذي يفوق عدده الـ15 ألف مقاتل، وبدأ حديث الخرائط والتحرك الميداني، الأتراك من جهة تل أبيض و«الجيش الحر» من جهة جرابلس. الخطير في الأمر أيضاً أن هذه المعطيات ترافقت مع معلومات عن خطة لنقل الألوف من إرهابيي تنظيم «هيئة تحرير الشام» (النصرة) باتجاه «منبج» وشرق الفرات لاستخدامهم في الحرب التركية التي لا تُفهم إلا بوصفها مرحلة من مخطط توسعي يقوم على القضم المتتالي والتتريك للشمال السوري، لتعزيز الحضور التركي للبقاء الطويل وحجز موقع في الحل ربما يمهد لاقتطاع لواء إسكندرون جديد!
بجدية بالغة قوبلت التهديدات التركية، وتعلن «قسد» أنها لن توفر أي إمكانية للدفاع عن مناطق تحملت العبء الكبير في تحريرها واستعادة استقرارها وإعادة النازحين إليها، وبدء عمليات إعادة إعمارها بدعم من التحالف الدولي.. واعتبر الجانب الأميركي «منبج وشرق الفرات خطاً أحمر»، ورأى أن «إقدام أي طرف على عمل عسكري في شمال شرقي سوريا، يمثل مصدر قلق شديد وغير مقبول؛ لأنه يعرّض القوات الأميركية في المنطقة للخطر». وحثّت واشنطن «كل فصائل (الجيش الحر) على عدم المشاركة في أي عملية عسكرية شرق الفرات»، وأبلغت الائتلاف السوري أن «المشاركة تعني الهجوم على الولايات المتحدة وقوات التحالف، وهذا سيؤدي إلى صدام مباشر»، مضيفة أنه «حينما ترقص الفيلة عليكم أن تبقوا بعيدين عن الساحة». لا نريد لتركيا شن عمليات، ونعتقد أن «الحوار هو الطريق لمعالجة المخاوف الأمنية التركية على الحدود».
بين الإصرار الروسي على حصر النقاش بالبحث عن حلٍ جزئي يعالج بعض النتائج التي أسفرت عنها الحرب، وهو منحى استند إلى فرضية بُنيت على قرار أميركي سابق انطلق من رغبة لدى الرئيس ترمب في الانسحاب من سوريا، قد سبب تعثر المسار السياسي الحقيقي للأزمة السورية... والتطور الأميركي في معركة لَي الأذرع الإيرانية وإرغام طهران على تغيير سلوكها، بدّل المشهد كلية و«الحل» من خلال مسار آستانة يكاد يكون قد طُوي. قضى الوضع الجديد بأن تعزز أميركا وجودها العسكري والسياسي حتى بلوغ الحل السياسي وفق مسار جنيف وتأمين الشروط لعودة اللاجئين وإخراج ميليشيات الحرس الثوري من سوريا. بهذا السياق، كان لافتاً أن الزيارة إلى تركيا التي قام بها السفير جيمس جيفري، لم تحقق لأنقرة ما تريده، بل إن إعلان السفير جيفري، وهو المكلف المسألة السورية، أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا سوف يستمر، وأنه مع تأخر الحل السياسي قد «تطبق واشنطن في شرق الفرات ما طبقته من قبل في شمال العراق»، فُهم الموقف بأنه يحتمل إعلان حظر جوي على المنطقة. أثار ذلك موسكو التي اتهمت أميركا بتشجيع تقسيم سوريا من خلال السعي لإنشاء كيان كردي مستقل، وكررت موقفها بأن الوجود الأميركي في سوريا غير مشروع (...)، وبالتأكيد أغضب هذا الموقف أنقرة التي توجست من الأبعاد المتأتية عن البقاء الأميركي المستند إلى الوضع الكردي... فقرع إردوغان طبول الحرب!
الوضع خطير ودقيق، ويمكن لأي احتكاك حدودي أن يشعل الفتيل، لكن لا يبدو أن الأميركيين الذين استثمروا مئات الملايين في «قوات سوريا الديمقراطية» سيسمحون بأن تذهب هذه الاستثمارات هباءً منثوراً. هنا الخطأ ممنوع؛ فما ساهمت أميركا في بنائه في شرق الفرات دوره محوري في معركة العقوبات على النظام الإيراني وميليشياته، وسوريا ساحة رئيسية تضغط فيها واشنطن لفرض انسحاب إيراني كامل.
هذه الحقيقة تعرفها أنقرة، ويبدو إردوغان في سياق ما سعى إليه، كان يريد حرف أنظار الداخل التركي باتجاه الوضع الإقليمي لإيهام الأتراك أنه يعمل لحماية حدود تركيا وأمنها القومي؛ لأن في ذلك إمكانية لاستعادة أوساط من الناخبين عشية معركة انتخابات محلية (بلدية) لا ضمانة للحزب الحاكم بأن يكرر فيها الفوز الذي حققه في الانتخابات النيابية، بعد ابتعاد حليفه حزب الحركة القومية. من هنا ذهاب تركيا إلى محاولة اجتياح شرق الفرات مسألة ليست مضمونة النتائج؛ لذلك الخوف كبير من الدور الموكل لمجموعات «النصرة» المرتبطة بالمخابرات التركية والتي يدور الحديث عن تنظيمها عمليات تستهدف القوات الكردية؛ ما سيهدد بنشوء وضع معقد وغير محسوب في معركة مكافحة الإرهاب، والحرب على الشعب السوري قدّمت الكثير من نماذج الاستثمار في قوى الإرهاب واستخدامها. وأخطر منها أن تدفع أنقرة وحدات من «الجيش الحر» المهيمَن عليه من جماعات «الإخوان» السوريين، لخوض حربها بالوكالة. هذا الأمر يتم التداول العلني به، فيقتل السوري سوريّاً آخر، وترتفع أكثر جدران الحقد والكراهية بين السوريين وتزداد التبعية للخارج؛ ما تعتقد معه أنقرة أنه المدخل لضمان حدٍ معين من مصالحها على حساب دماء السوريين الذين مع تمركز المواجهة في الشرق السوري سيكونون عرضة لموت جديد ونزوح جديد وخراب مديد.