د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

اتفاق السويد... قطرات أولى في «الكوب اليمني»

«السماء بدأت تنقط» تعبير شعبي دارج لدى المصريين حين تبدأ مشكلة عويصة في الانفراج الجزئي. والتشبيه يحاكي الطبيعة حين تبدأ القطرات الأولى للأمطار في النزول لتروي الأرض المتعطشة. شيء من هذا القبيل قاله أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة في الحفل الختامي لجلسة المشاورات اليمنية في السويد، حين شبّه الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان اليمنيان حول ميناء الحديدة ببعض قطرات الماء التي بدأت تنسكب في الكوب اليمني، الذي ما زال يتعين الانتظار بشأنه بعض الوقت والقيام بجهد متواصل حتى نصل إلى «الكوب الممتلئ»، في إشارة إلى تسوية سياسية متكاملة قابلة للتطبيق من دون منغصات أو تراجعات من أي طرف. هذه القطرات الأولى لم تكن يسيرة، لكنها مهمة بشرط أن يتم الالتزام بها حرفياً من الطرفين.
الأمم المتحدة من جانبها ووفقاً لتأكيدات الأمين العام، وكذلك المبعوث الخاص لليمن مارتن غريفيث سوف تقوم بما يمكن القيام به من أجل التطبيق الجيد والدقيق للاتفاق بشأن الحديدة، باعتبار أن تلك المهمة سوف يترتب عليها بناء قدر من الثقة بين الحكومة اليمنية الشرعية وجماعة «أنصار الله» الحوثية الانقلابية، وانفراجة نسبية في الحالة المعيشية لكثير من اليمنيين، بعد ضمان وصول المساعدات الإنسانية، وأيضاً ضمان توجيه عائدات الميناء إلى البنك المركزي «فرع الحديدة»، ومن ثَم صرف مرتبات قطاع كبير من اليمنيين، وبالتالي الإعلاء من قيمة المقولة الشائعة إن الحل في اليمن هو حل سياسي بامتياز، وليس أي شيء آخر. ورغم أن المقولة صحيحة مبدئياً، فإنها لا تلغي أن الضغط العسكري المتواصل لعب دوراً في تليين موقف الحوثيين.
وفق هذا الترتيب الذي يبدو منطقياً للغاية لدى غريفيث، ستكون مهمة جمع الطرفين مرة أخرى في منتصف أو نهاية شهر يناير (كانون الثاني) المقبل مسألة أكثر يُسراً مما كان عليه الأمر بالنسبة لمشاورات السويد، سواء تعلق الأمر باستجابة وفد الحوثيين للمشاركة المنتظرة، وبإمكانية التوصل إلى اتفاقات أخرى ذات طبيعة إنسانية وسياسية وأمنية في آن واحد. والقضايا المنتظر التركيز عليها في تلك الجولات المقبلة هي الوضع في تعز ورفع الحصار الحوثي عن أبنائها، ووضع نظام لمطار صنعاء يضمن سيادة الحكومة الشرعية، وتحسين الوضع الاقتصادي من خلال حل معضلة البنك المركزي اليمني وتوحيد فروعه كمؤسسة سيادية لا تخضع لأهواء السياسيين أو ضغوط الحوثيين كما هو الآن.
حين ركز غريفيث على الأبعاد الإنسانية، بادئاً بالحديدة وتبادل الأسرى، كمفتتح للقاءات بين وفدي الحكومة والحوثيين، ظهر أن الرجل يعمل وفق استراتيجة الخطوة خطوة مستفيداً من خبرة مناطق خفض التوتر في الحالة السورية، ودون أن يبعده ذلك عن جوهر مهمته، وهو تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بالأزمة اليمنية، وأبرزها القرار 2216، مضافاً إليها المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني اليمني ومشاورات الكويت صيف 2016. وهو ما أشار إليه صراحة في إحاطة له لمجلس الأمن منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
ونظراً لاتساع شقة الخلاف بين الحكومة الشرعية المتمسكة بالمرجعيات الثلاث، والحوثيين الرافضين لهذه المرجعيات ويصرون على حكومة انتقالية وإقصاء الرئيس الشرعي، جاء تركيز غريفيث على البدء بحلول لبعض المشكلات ذات الصلة المباشرة بالأوضاع الإنسانية المتردية، التي تجعل 20 مليون يمني يواجهون انعدام الأمن الغذائي، وفقاً لتقرير مارك لوكوك مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية، باعتبارها تمثل أولوية قصوى لدى جموع اليمنيين، وأيضاً توظيفها كضغط معنوي على صانعي القرار في الجانبين، وأن الإنجاز فيها ولو جزئياً سوف يسهم في تشكيل بيئة عمل مناسبة للغوص في عمق المشكلات المتعلقة ببناء نظام سياسي يمني جديد ينهي الصراع ويفتح باب المستقبل لليمنيين ككل.
لكن الأمر في الواقع ليس مثل سهولته في التخيل والحسابات الظنية والمنطقية، سواء لدى غريفيث أم غوتيريش، ففي الواقع هناك حسابات أخرى تماماً، ومتغيرات لا يستطيع غريفيث أن يتحكم فيها أو يعطل بعضها. ومنها أن يقدم كل طرف تفسيراً مختلفاً عن التفسير الآخر بشأن تطبيق الانسحاب من الحديدة أو الخطوط التي يفترض الانسحاب إليها، وكذلك طبيعة قوات الأمن التابعة للداخلية اليمنية التي ستتولى حفظ الأمن في المدينة، وأسلوب عمل فرع البنك المركزي في الحديدة، وكيفية تأمين الممرات الإنسانية والطرق بين المدينة والمدن الأخرى كصنعاء وحجة وغيرهما، وكيفية نزع الألغام التي زرعها الحوثيون في الميناء وحول المدينة، وآلية عمل لجنة التنسيق الأمني المشتركة التي سيرأسها أحد القيادات العسكرية الدولية بموافقة مجلس الأمن، وحدود التفتيش الذي ستتولاه الأمم المتحدة للشحنات القادمة لموانئ الحديدة الثلاثة، وكيف سيتم، ولا سيما حجم التنسيق مع قوات التحالف. وقد رأينا بداية للتفسيرات المختلفة بالفعل، ما يجعل التفاؤل المفرط بعيداً عن أي حكمة.
إن حجم التأييد الذي سيحصل عليه غريفيث من مجلس الأمن الدولي سيلعب دوراً مهماً في تسهيل مهمته. وسوف نرى جميعاً ما الذي يمكن أن يقوم به مجلس الأمن في مسألة تشكيل قوة مراقبة خاصة بتطبيق اتفاق الحديدة بجوانبه المعقدة، كانسحاب القوات العسكرية من المدينة ومن موانئها الثلاثة، وإعادة انتشارها خارج المدينة وفق خطوط يتفق عليها، أو هي موجودة في الملاحق الخاصة بالاتفاق، حسب ما قالته وزيرة الخارجية السويدية في الحفل الختامي لجولة المشاورات.
صحيح هنا أن مكتب غريفيث والأمين العام غوتيريش لديهما صيغة قرار دولي بشأن تفاصيل قوة المراقبة وطبيعة عملها وتمويلها، لكن الصحيح أيضاً أن توافق القوى الكبرى في المجلس على كل التفاصيل ليس مضموناً، سواء من حيث حجم قوة المراقبة وسبل تأمينها وتمويلها والمعدات والآليات التي يفترض توافرها، وكذلك مدتها الزمنية، والأكثر أهمية من كل ذلك ما يتعلق بتضمين القرار عقوبات واضحة قابلة للتنفيذ الفوري والجماعي بحق الجهة التي تمتنع عن التعاون الشفاف أو تضع العراقيل لإفشال الاتفاق أو تطبيقه بما يحقق مصالحها وليس مصلحة اليمنيين. وسوف يكون غريفيث «محظوظاً» إن صدر قرار دولي يقر تصوره بشأن تلك القوة. ولكن هذا القدر الكبير من «الحظ» سيمثل عليه عبئاً كبيراً في الخطوات اللاحقة، التي سيتحمل مسؤولية كبرى في حُسن توظيفها وصولاً إلى إنهاء الأزمة برمتها.
إن «القطرات الأولى» في الكوب اليمني، وإن فتحت ثغرة في جدار التعنت الحوثي، إلا أنها بحاجة إلى رعاية واستمرارية ودعم دولي وإقليمي، لكي تُسكب قطرات أخرى تملأ الكوب، وتعفي اليمنيين من سكب أنهار أخرى من الدماء.