صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

استهداف السبسي استهداف لما حققه لتونس «البورقيبية»

حتى عندما كان الحبيب بورقيبة في ذروة تألقه، فإنه لم يستطع الإقدام على هذه الخطوة التي أقدم عليها الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي، بأن ساوى بين الرجل والمرأة في «الميراث». وحقيقة أن هذا قد جاء مع وجود اتجاه معارض ورافض، هو «حركة النهضة» بقيادة راشد الغنوشي، وهو يعتبر تحدياً هائلاً لم يأخذ أبعاده المتوقعة بعد. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن ما يعزز موقف من اتخذ هذا القرار، بينما وصل الصدام بين تيارين متضادين إلى ذروته، هو أن القطاع النسائي في هذه الدولة العربية، ومع الوقت وتلاحق المراحل، قد أصبحت له مكانة رئيسية وأساسية في بلده.
ويقيناً أن هذه الخطوة التي أقدم عليها الرئيس التونسي «البورقيبي» في هذه الظروف، وفي هذا الوقت بالذات، ومع وجود اتجاه فاعل ممثلٍ بـ«حركة النهضة» التي يؤكد البعض، ورغم نفي زعيمها ومؤسسها راشد الغنوشي، أنها لا تزال عضواً فاعلاً في التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» الذي انتقل من مصر إلى تركيا، والذي غدا منذ أكثر من عقدين من السنوات مدعوماً بإمكانات دولة عربية ذات إمكانات «فائضة» عن حاجتها كثيراً، هي دولة قطر «الشقيقة»، ربما كان أهون وأسهل على الزعيم المؤسس الحبيب بورقيبة أن يتخذ مثل هذه الخطوة، عندما أعطى المرأة حق المساواة بالرجل، وعندما منحها الحرية غير المتوفرة للنساء في معظم، إن لم يكن في كل الأقطار العربية؛ إذْ إنه في تلك الفترة السابقة في ستينات وسبعينات وأيضاً ثمانينات القرن الماضي، لم يكن هناك كل هذا المد «الأصولي»، لا في تونس ولا في غيرها، فالاتجاه الرئيسي في تلك الفترة المتقدمة كان الاتجاه «القومي»، وإلى جانبه كانت هناك بعض البؤر «اليسارية» غير الفاعلة.
والآن، وقد أقدم الباجي قائد السبسي على هذه الخطوة، فإن الخوف كل الخوف هو أن يبادر المعارضون وفي مقدمتهم «حركة النهضة» إلى ما لم يكن ممكناً في فترات سابقة، وهو العنف والقوة العسكرية، وهنا، وحسب معرفتي، وكنت قد تعرفت على زعيم هذه الحركة عن قرب في فترة متأخرة من ثمانينات القرن الماضي، فإن هذا غير مستبعد على الإطلاق، وبخاصة أن هناك اتهامات لـ«النهضة» بأنها هي من كانت وراء بعض عمليات الاغتيال التي استهدفت بعض المناهضين العلمانيين، الذين يحظون بشعبية فعلية وحقيقية، وبخاصة في القطاعات النسائية التي باتت تخشى على الامتيازات التي كانت قد حصلت عليها في المرحلة البورقيبية، التي تواصلت لثلاثين عاماً وزيادة.
كان الحبيب بورقيبة صاحب رسالة اجتماعية، وصاحب موقف سياسي في غاية المرونة، بدأه بالقبول بالحكم الذاتي لتونس تحت الانتداب الفرنسي. وبالنسبة للقضية الفلسطينية، الارتياح لقرار التقسيم الشهير، والمعروف أنه كان قد طالب الفلسطينيين والعرب خلال خطابه التاريخي في مدينة أريحا، خلال زيارته للأردن في عام 1965، باتباع أسلوب: «خذ وطالب»، وهذا مع الإسرائيليين، وهذا ما تأخذه حركة «النهضة» هذه عليه، وربما على الباجي قائد السبسي، رافع الراية البورقيبية حتى الآن، رغم كل هذه التحديات التي تواجهه، ورغم استهداف راشد الغنوشي له ولتوجهاته السياسية والاجتماعية، وإصراره على المضي في السير على الطريق البورقيبي، وعلى السعي الدؤوب لاستكمال المنجزات التي تمت خلال الثلاثين عاماً، وأكثر من تجربة هادئة وواقعية هي التي جعلت تونس تتحمل كل عواصف «الربيع العربي».
وحقيقة أن ما شوه سمعة «المجاهد الأكبر»، أنه كان «واقعياً» أكثر من اللزوم، وأنه عندما لاحقته الجماعات والأحزاب القومية واليسارية والإخوانية بالمظاهرات الاستنكارية، من عمان إلى أريحا عندما زار الأردن في عام 1965، ردّ بذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه في هذه المدينة الفلسطينية، الذي رفع فيه شعار: «خذ وطالب»، والذي تنبأ فيه بأن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين سيستمر لمائة عام وأكثر، إذا بقي الفلسطينيون والعرب غير واقعيين، وبقوا يتمسكون بمطالب لا يمكن تحقيقها، ما دامت معادلات موازين القوى ليست لمصلحتهم.
ولهذا فإنني أعتقد جازماً بأن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، رحمه الله، بعد إخراجه من بيروت، بعد قتال مجيد في عام 1982، استمر لنحو ثلاثة أشهر، قد اختار تونس موقعاً قيادياً لمنظمة التحرير وللثورة الفلسطينية؛ لأنه كان معجباً بأسلوب بورقيبة النضالي والتفاوضي، ولأنه أدرك بعد سبعة عشر عاماً من الكفاح المسلح، أن عليه أنْ يأخذ بنصيحة بورقيبة التي كان وجهها إلى الشعب الفلسطيني وإلى الثورة الفلسطينية، التي كانت لا تزال في بداية انطلاقها في عام 1965، وإلى العرب كلهم بمن فيهم الرئيس جمال عبد الناصر وحزب البعث في سوريا، التي عنوانها: «خذ وطالب»، والتي دعا فيها إلى مفاوضات مع الإسرائيليين على أساس قرار التقسيم، وعلى نحو مختلف وبصورة قاطعة، مع شعار: «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة».
ثم إن أبو عمار في حسه المرهف بالنسبة لهذه القضايا، كان يعرف أن انتقاله من بيروت إلى دمشق، سيحوله وسيحول منظمة التحرير والثورة الفلسطينية إلى مجرد رقم في يد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وأن قبوله دعوة القذافي بأن يستبدل بالعاصمة اللبنانية العاصمة الليبية، سيحرق كل أوراقه مع الغرب الأوروبي والولايات المتحدة.
لقد كان عرفات يعرف هذا، وكان يعرف أيضاً أنه سيذهب إلى قمة «فاس» الثانية صاحبة القرارات الشهيرة بالنسبة للقضية الفلسطينية، وأنه يجب أن يأتيها من تونس الحبيب بورقيبة، صاحب شعار: «خذ وطالب»، وليس من جماهيرية القذافي، ولا من دمشق حافظ الأسد.
وعليه، فإن كل هذا الاستعراض هو للتأكيد أنَّ كل هذا الاستهداف للرئيس التونسي (البورقيبي) الباجي قائد السبسي، هو استهداف للبورقيبية المعتدلة. وهنا عليَّ أنْ أشير إلى أنني قد رأيت الحبيب بورقيبة عن قرب ثلاث مرات، وهذا مع أنني كنت أحد مجانين عام 1965 الذين لاحقوه بالبيض و«الطماطم» الفاسدة، من عمان إلى أريحا. وكانت المرة الأولى عندما عقد الاتحاد العام للصحافيين والكتًاب الفلسطينيين مؤتمره في تونس، وتكريماً للشعب الفلسطيني وللثورة الفلسطينية، فقد أقيمت لأعضائه، الذين كنت أحدهم، مأدبة غداء في قصر قرطاج، بدعوة من الرئيس التونسي. ويومها كنت أحد المعتذرين وبصوت مرتفع؛ لأنني كنت أحد المشاركين في جريمة «الطماطم» والبيض الفاسد تلك، وكان رده عليَّ، رحمه الله: «لقد كنتم صغاراً. وإنني أتمنى أن تكونوا قد تعلمتم من دروس الماضي الشيء الكثير».
كانت تلك المرة الأولى، أما المرة الثانية فقد كنت أحد الذين رافقوا أبو عمار في رحلة الخروج من بيروت إلى تونس، مروراً بأثينا في اليونان، وبالطبع فإن كل الذين رافقوه في تلك الرحلة قد حضروا حفل الغداء الذي أقامه له في قصر قرطاج نفسه، المجاهد الأكبر. ويومها كنا قد سمعنا كلاماً فحواه: «خذ وطالب»، وعليكم أن تذهبوا إلى المفاوضات بكل إقْدام وجرأة.
أما المرة الثالثة، فكانت في بنزرت، في ذكرى صمودها ضد الغارات الفرنسية الهمجية، رداً على احتضانها واحتضان تونس للمجاهدين الجزائريين، وحيث أصر أبو إياد - رحمه الله - على مرافقتي له لحضور تلك المناسبة العظيمة. ويومها امتدح المجاهد الأكبر بحضور زوجته الوسيلة بن عمار، الأخ الكبير والصديق العزيز صلاح خلف - رحمه الله - بقوله: «أنا أحيي أبو عياد (أي أبو إياد)، إنه إرهابي كبير». ويومها ضحك الحبيب بورقيبة، وضحك الحضور جميعهم!