علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

سرعة التأثر {بالجهادية المودودية} بين إسلامي سوري وعالم مغربي

نستخلص مما قاله الإسلامي الهندي مسعود الندوي للإسلامي السوري محمد كمال الخطيب في العراق عام 1949، أن الأول يجهل أن للشيخ محمود شلتوت كتاباً اسمه «القرآن والقتال»، الذي ذهب فيه إلى أن الجهاد في الإسلام جهاد دفاعي لا جهاد هجومي، فلو كان يعلم به، لكان ذكره ضمن الكتب التي عدَّد أسماءها وأسماء مؤلفيها بعد قوله: «إن العلماء في مصر ابتداء من محمد عبده، وحتى الآن يقولون بأن الجهاد هو جهاد دفاعي (سلبي)»، ولو كان ذلك الكتاب كما قال أستاذنا رضوان السيد خطاً مكرساً للهجوم على الرأي الديني الذي يربط الجهاد بالكفر، وعلى تنامي هذا الرأي عبر قرن من الزمان والرد عليه، وهو الرأي الذي يُفهم من كلامه أن الهند كانت بداية انطلاقته وتناميه، لكان عرفه.
كتاب الشيخ محمود شلتوت «القرآن والقتال» يندرج ضمن الكتب التي ذكرها مسعود الندوي، بل هو مخصَّص بأكمله للبحث في قضية الجهاد، في حين أن الكتب التي كان ذكرها كانت قضية الجهاد فيها موضوعاً من موضوعاتها. لذلك فالكتاب لو قُدّر له أن يطلع عليه مفيد له في دعم حجته بأن القول الشائع في مصر هو أن الجهاد هو جهاد دفاعي، خصوصاً أن الكتاب، كما قلنا، مخصَّص بأكمله للبحث في قضية الجهاد، وأن مؤلفه فقيه أزهري. وأعزو جهله بهذا الكتاب إلى حداثة صدوره، فالكتاب صدر في عام 1948، والمجادلة حصلت في عام 1949. لكن لهذا الكتاب كما ذكرنا في مقال سابق كتاب أصل، وهو كتاب «الدعوة المحمدية والقتال في الإسلام»، الذي صدر في عام 1932، وقد ذكر كتاب الشيخ عبد الوهاب خلاف «السياسة الشرعية» الذي صدر في عام 1931، والكتابان كلاهما طُبِع في المطبعة نفسها، وهي المطبعة السلفية؛ فماذا يعني هذا؟
يعني هذا ببساطة أن كتاب الشيخ عبد الوهاب خلاف قد وصل إلى المسلمين في الهند، وأن الكتاب (الأصل) للشيخ محمود شلتوت لم يصل إليهم.
وكما يروي مسعود الندوي، فإن محمد كمال الخطيب حين سمع قوله في الجهاد «ألقى على الفور خطبة قصيرة في الدفاع عن الجهاد الدفاعي. وعندها أوضح العبد لله باختصار الجهاد بنوعيه: الجهاد الدفاعي والجهاد الإصلاحي، كما ألقيت الضوء على نزول بعض آيات القتال، وتراتبها التاريخي، فأطمأن لحديثي، ثم أطلعته على كتيب (الجهاد في الإسلام) للمودودي، وقلت: حتى الآن لم يكتب ولم ينشر عن هذا الموضوع أي كتاب بأي لغة غير هذا. فقال: ليته يُترجم إلى العربية! فقلت: عندنا نية لترجمة جميع الكتب المهمة، لكننا لا نجد كاتباً جيداً بالعربية في الهند، والعبد لله لا يستطيع أن يعمل كثيراً، نظراً لتدهور صحته. على كل حال لن تتوقف عملية الترجمة».
لنتنبّه إلى أن مسعود الندوي في مجادلته مع محمد كمال الخطيب استعمل إزاء الجهاد الدفاعي أو جهاد الدفع، كما في المصطلح الفقهي القديم، عبارة الجهاد الإصلاحي. وهذه العبارة عبارة غامضة وغير متسقة في هذا المقام لا مبنى ولا مضموناً. فما يقابل الجهاد الدفاعي في المصطلح المعاصر، هو الجهاد الهجومي لا الجهاد الإصلاحي.
هو لا يجهل الاستعمال اللغوي الدقيق، وإنما استعملها بالمعنى المحدث الذي أسبغه المودودي على مسألة الجهاد في الإسلام، المستمد من الثقافة الغربية، الذي لا أصل له عند فقهاء الإسلام القدماء. وهذا المعنى الحديث يستند إلى مغالطات منطقية ومماحكات كلامية.
نستخلص من تلك المجادلة أنه مع أنَّ حسن البنا منذ إنشائه لجماعته يقول «إن الجهاد هو جهاد دفاعي وجهاد هجومي»، إلا أن قوله هذا في المنتصف الأول من القرن الماضي ليس هو القول السائد بين المنتمين إلى فكر الحركة الإسلامية في العالم العربي؛ فلقد رأينا أن الإسلامي السوري محمد كمال الخطيب الذي هو منتمٍ إلى هذا الفكر كان يحصر الجهاد في الجهاد الدفاعي في بداية مجادلته مع الإسلامي الهندي مسعود الندوي، بتأثير من الفكر الإسلامي الإصلاحي السائد وقتذاك في العالم العربي. ونستخلص أيضاً سهولة تأثُّر الإسلاميين العرب بالإسلاميين الهنود المودوديين سواء في قضية الجهاد أو في قضايا غيرها. فمما رواه مسعود وجدنا أن الخطيب لما سمع بحججه اقتنع بها فوراً وعدل عن رأيه الأول.
سرعة التأثر (الذي يبدأ باعتراض ثم ينتهي في وقت وجيز من بدء المحادثة بموافقة) ستجابهنا في حكاية أخرى، ومع صنف آخر من أهل الدين. لكن هذه الحكاية تختلف عن الحكاية الأولى في أن الاعتراض فيها كان قوياً وشديداً، وأن الموافقة فيها استغرقت وقتاً أطول قليلاً من الوقت الذي استغرقته الموافقة في الحكاية الأولى.
طرفا هذه الحكاية هما صاحبنا مسعود الندوي، وعالم دين تقليدي اسمه محمد تقي الدين الهلالي.
ويحسن قبل أن أنقل لكم الحكاية أن أقدِّم بعض الإيضاحات:
يختلف الهلالي عن لداته من العلماء السلفيين، وعن العلماء السلفيين الذين عاصرهم في العالم العربي، أنه لغوي وأديب يتقن اللغتين الإنجليزية والألمانية، ويلمّ بشيء من اللغتين الأردية والإسبانية، وبشيء من لغتين قديمتين، هما السريانية والعبرية، وأنه حاصل على الدكتوراه من جامعة أوروبية، وأنه اشتغل بالترجمة من وإلى اللغة العربية، وأنه على إلمام يسير بالثقافة الغربية فيما يتعلق ببعض المذاهب والأنظمة السياسية.
يُعدّ الشيخ الهلالي من أهل الحديث، وهو متعصِّب لمدرستهم.
صلته بمسعود الندوي بدأت حين درّسه اللغة والأدب العربي في ندوة العلماء، في أول ثلاثينات القرن الماضي. ومسعود الندوي وأبو الحسن الندوي (الندوي نسبة إلى تلك الكلية، ندوة العلماء، وليس إلى عائلة) هما من أبرز تلاميذه في الحقلين المذكورين. لما زار مسعود الندوي ورفيقه محمد عاصم حداد العراق عام 1949، كان قد عاد الشيخ الهلالي من ألمانيا إلى العراق (الشيخ كان متحصلاً على الجنسية العراقية) عام 1947، ليدّرس الأدب العربي والقرآن والحديث في كلية الملكة عالية في بغداد. وقد رأى مسعود الندوي أن وجود أستاذه في اللغة والأدب العربي في العراق حين زار هذا البلد هو ورفيقه محمد عاصم حداد، فرصة ثمينة ليراجع ويصحح ما ترجماه من بعض كتب المودودي من اللغة الأردية إلى اللغة العربية، من ناحية دقَّة العبارة ومتانة الأسلوب وقوة البيان وبلاغته، وصحَّته نحوياً، ووضع مقابل عربي مناسب لبعض الاصطلاحات الغربية. وقام الشيخ الهلالي بهذه المهمة. ولأنه وقتها كان ضعيف البصر، كانا مضطرين إلى أن يقرأ عليه ما ترجماه، ليصحح لغوياً وبيانياً ترجمتهما. وكان من ضمن هذه الكتب «الجهاد في سبيل الله»، الذي سيأتي ذكره في الحكاية التي سأنقلها لكم. وهذا الكتاب هو في أصله محاضرة ألقاها المودودي عام 1939، ثم طُبِع في كتاب. وهذه المحاضرة أو هذا الكتاب عبارة عن مستخلص من كتابه «الجهاد في الإسلام»، الذي جرى ذكره في الحكاية الأولى. وهذا الكتاب صدر لأول مرة في عام 1927، ولم يُترجم إلى العربية إلا في وقت متأخر، وهو منتصف ثمانينات القرن الماضي. بعض كتب المودودي التي تقاسَم ترجمتها مسعود الندوي ومحمد عاصم حداد، وحملاها معهما من باكستان إلى العراق كانت الدفعة الثانية من كتب المودودي المترجمة إلى العربية، سبقتها دفعة أولى تُرجمت إلى العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي مع إنشاء «دار العروبة للدعوة الإسلامية»، وهي من مؤسسات الجماعة الإسلامية أو المودودية، وكان يرأسها مسعود الندوي إلى عام وفاته، عام 1954، وكان يعمل معه فيها محمد عاصم حداد.
بعد هذه الإيضاحات سأنقل لكم الآن الحكاية.
بتاريخ 7 يوليو (تموز) 1949، سجَّل مسعود الندوي الجزء الأول من الحكاية، فقال: «تحدث الأستاذ الهلالي حديثاً ممتعاً، عن الجهاد. كان له اعتراض ما، أثناء قراءتنا (الجهاد في سبيل الله). قال: ها أنتم مثلكم مثل الشيوعيين، تريدون أن تفرضوا أفكاركم ونظامكم على الآخرين. فقلت: إذا سميتَ هذا جبراً وفرضاً، فالقرآن يرشد إلى ذلك؛ هناك نص قاطع في هذا الباب في آية سورة التوبة، فقال: يجب تأويل لفظ (صاغرين). فقلت: ما هي القباحة في هذا؟! نحن لا نجبر أحداً على الإيمان، نحن نريد تطبيق قانون العدل الإلهي على أرض الله. وهذا هو المعنى الأساسي في القرآن الكريم، وسورة براءة بأكملها تحمل روح هذا المعنى. قدم الأستاذ الهلالي من جانبه دلائله، وكنتُ مستعداً لهذا الموضوع استعداداً تاماً، ولهذا بقيت أقدم له الجواب تلو الجواب، بطريقة معقولة، وبأدب واحترام، ثم صمت، لكن يبدو أنه سيثير بحث الموضوع في جلسة أخرى».
وبتاريخ 20 يوليو 1949 سجل الجزء الثاني من الحكاية، فقال: «تأثر الأستاذ الهلالي كثيراً ونحن نقرأ (الجهاد في سبيل الله) وأثنى على المضمون وأسلوب البيان، يقول: كيف تسمح الحكومة الهندوكية بمثل هذه الكتب؟! فقلت له: هذه معجزة الكتب، ثم بدأ يقول: الآن فهمت لماذا اعتقلت الحكومة الباكستانية المودودي؟ فهذه الكتب سوف تطيح بأسس الفسق والفجور. ليتَ هذه الكتب تصل إلينا هناك (أي في شمال أفريقيا، مراكش والجزائر وغيرها)، لكن كيف يمكن أن تسمح السلطة الفرنسية بنشرها؟ لكن يمكن إيصال عشرين أو خمس وعشرين نسخة إلى عدة أماكن مشهورة، ولا تفكروا في التكلفة. فقلت: ليس المقصود من هذه الكتب الكسب التجاري. أخبرنا فقط بالوسيلة وسوف تصل النسخ المطلوبة بإذن الله. وانشرح صدر العبد لله بلقاء اليوم، ورجعت مسروراً مستبشراً».
في الجزء الثاني من الحكاية ثمة لبس وإلباس سأسعى إلى رفعهما لمحاولة فهم تعجب الهلالي. وللحديث بقية.