سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

الطريق نحو سوريا الجديدة مزروعة بالأوهام والتضليل

باتت الحرب السورية، أقله حتى الساعة، وبالمقارنة مع ما مضى من أهوال، في سياق صراع منخفض الحدة، وتبقى مع ذلك طاغية على القضايا الأخرى في الإقليم، وفي خانة الأهمية القصوى من حيث الرصد وما يدور عنها وفيها منذ ثماني سنوات.
إن انهيار سوريا وتفككها الذي يبدو متصاعداً، ويحمل مخاطر جمة، أبرزها ثلاثة:
إن استمرار الحرب في سوريا، أو أقله الاضطراب فيها، يؤثر على أوضاع وخيارات خمس دول، هي: إسرائيل، والأردن، والعراق، ولبنان، وتركيا. على الجبهة الإسرائيلية، لا تزال مسببات تصعيد عسكري إسرائيلي - إيراني على الأرض السورية موجودة، وما تسريب إسرائيل لمعلومات عن غارات جديدة شنتها ضد أهداف إيرانية إلا خير دليل على ما نقول. فمثل هذه الحوادث قد تفجر في أي وقت معركة أوسع على الرغم من تطمينات رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، التي لا تعكس برأي كثيرين، ولا سيما وسائل الإعلام العبرية، حقيقة الأجواء السياسية والعسكرية في الداخل الإسرائيلي.
الخطر الثاني، يأتي من النزاع التركي مع الفصائل الكردية في الشمال والهدنة الهشة في إدلب، التي دفعت الأمم المتحدة إلى التحذير من نتائج كارثية إذا ما اندلع القتال فيها.
أما الخطر الثالث، فيكمن في محاذير اندلاع مواجهة أميركية - روسية في سوريا، ولا يجوز إغفالها على الرغم من أنها لا تزال مستبعدة في الوقت الحاضر.
وسط كل ذلك، جاءت استقالة المبعوث الأممي دي ميستورا بعد الأخضر الإبراهيمي وكوفي أنان، لتدل على تعثر الحلول السياسية والأداء الدبلوماسي جراء عوامل كثيرة، أهمها وأشدها تأثيراً الإصرار الروسي والإيراني على بقاء الرئيس بشار الأسد وتركيبة النظام التي تحيط به على رأس السلطة. سقطت كل المبادرات والتسويات والمفاوضات؛ لأنها اصطدمت بالتمسك ببقاء الأسد في الحكم دون الالتفات إلى كونه عقبة رئيسية أمام أي تفاهم إنقاذي أو تسوية انتقالية ممكنة وقابلة للحياة، ودون أي اعتبار لحجم وعمق المأساة السورية منذ اندلاعها عام 2011، التي تجاوزت في بشاعتها كل الكوارث الإنسانية التي عرفها العالم في تاريخه الحديث. يدفع هذا الواقع إلى التشكيك حتى بالقيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها المبعوث الأممي الجديد غير بيدرسون على أداء وفاعلية من سبقه، دون التقليل من كفاءته.
كيف سيتمكن بيدرسون من كسر الحلقة المفرغة بالحد من الإصرار الروسي على بقاء الأسد، هذا إذا سلمنا جدلاً بقدرة موسكو على احتواء إيران ودورها في سوريا، مع التذكير بصعوبة هذا الأمر إلى حدود الاستحالة.
صحيح أن دور الأمم المتحدة هو الوساطة وتدوير الزوايا بغية حل النزاع؛ ما يحتم الحياد وبقاء مبعوثيها على مسافة واحدة من الأطراف كافة، إنما على الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها واجب عدم تجاهل المآسي والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت، ولا سيما على أيدي النظام، وفاقت مآسي كثيرة سابقة؛ لجهة عدد القتلى والنازحين والمخفيين قسراً، وملاحقة المسؤولين عنها وتقديمهم للعدالة الدولية. إلا أن الواقع يختلف مع التسامح النسبي الذي تبديه الأمم المتحدة تجاه الرئيس السوري.
هل سيدخِل بيدرسون جديداً على الأداء الممل؟ إن الدبلوماسي النرويجي الذي له باع مشهود في سبر أغوار قضايا المنطقة وشعابها، سرعان ما سيدرك أن الوضع السوري يختصر بسؤال حول إمكانية وضع دستور سوري حديث وديمقراطي يقوم على رابطة المواطنة، وقيام دولة الحق والحريات والقيم المدنية مع استمرار الأسد على رأس السلطة وتفرده بمصير سوريا وشعبها؟ إذا استمرت عقدة الأسد، ستتعثر مهمة بيدرسون كسابقاتها.
من جهة أخرى، بشّرنا المبعوث الأميركي السفير جيمس جيفري بأن موازين القوى المؤثرة على المسار الدبلوماسي ستبقى على ما هي عليه، عندما دعا إلى خروج كل القوات من سوريا باستثناء القوات الروسية. أضف إلى ذلك ما قاله صراحة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، من أن قوات بلاده ستنتشر في نقاط مراقبة شمال سوريا لطمأنة تركيا من عمليات إرهابية قد تستهدفها، وفي الواقع أن واشنطن تتموضع كقوات فصل بين تركيا والأكراد، وحتى بين هؤلاء وبين النظام السوري وداعميه. كل ذلك يعني ضمناً التسليم ببقاء الأسد.
بكلام آخر، تبقى الأزمة السورية مفتوحة على كل الاحتمالات وتبقى الطريق نحو سوريا جديدة ليست وعرة فحسب، بل هي مزروعة بمجموعة من الأوهام.
الأول، أنه سيأتي وقت ينفجر فيه الصدام بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا، فيما الواقع المفروض إدراكه أن الدولتين هما حالياً في سياق اقتسام مناطق النفوذ في سوريا، واعتماد التبادل والمقاولة ومراعاة المصالح الثنائية على قاعدة Outsourcing.
الثاني، أن إيران في سوريا ليست سوى شوكة يسهل اقتلاعها بمجرد إشارة من إصبع فلاديمير بوتين لنجد بعدها إيران وهي تجرجر ذيول الخيبة وتنسحب من سوريا بين ليلة وضحاها. أشيع الكثير حول مبادرة روسية في هذا المجال تقوم على المقايضة، أي إسقاط العقوبات عن إيران أو تخفيفها مقابل خروجها من سوريا. وهذا عنوان عريض خالٍ من التفاصيل: هل المقصود خروج المستشارين الإيرانيين وعددهم بالمئات؟ وماذا عن الميليشيات الشيعية العراقية وغير العراقية العاملة في إيران تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني؟ ماذا بشأن «حزب الله» ودوره، وماذا أيضاً بشأن تغلغل الأجهزة الإيرانية داخل المؤسسات السورية الاستخبارية والسياسية والأمنية وفي عمق الاجتماع السوري؟
إن الدهاء الروسي ومعه التغافل، بل التواطؤ الدولي بعامة، يرمي إلى اختصار الحرب بنتائجها وليس بمسبباتها، أي بالوجود الإيراني والعقوبات ضد طهران والتوتر الإيراني - الإسرائيلي والعلاقات الروسية - الأميركية والنزاع الكردي - التركي، وتناسي المسبب الرئيسي للحراك الشعبي السوري، أي إسقاط النظام الذي بدأ سلمياً وتحول إلى حرب وصلت إلى هذه الحدود المروعة. كل ذلك يؤشر إلى أن الحلول المتداولة لا تبشر ببقاء الأسد فحسب، بل بظهور «أسود» جديدة بعد عشر أو عشرين سنة.
نعم، لعبة الأمم مستمرة في التراجيديا السورية، والأنكى منها ألاعيب الساسة في المقايضة على دماء السوريين، بدل الانكباب على إصلاح ما أفسد عيشهم. الصراع محموم على سوريا وفيها، سوريا التي «تشلعت» حدودها لتتحول من وطن إلى غابة مستباحة أسدها باقٍ في عرينه يمنّ على شعبها بالمواطنة وفق مقياس واحد وهو الخضوع له ولحكمه.