علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

حجب الإسلام الهندي الإصلاحي عن العرب

قلت في مقال سابق إن قول أستاذنا رضوان السيد بأن السيد أحمد خان قد لاحظ أن «ربط الجهاد بالكفر» حصل في زمن الاستعمار، هو قول غير دقيق. فالسيد أحمد خان كان يرى أن الجهاد في الإسلام جهاد دفاعي، وأن الجهاد لا يكون «إلا في حالة القهر البالغ أو الحيلولة بين المسلمين وأداء شعائرهم الدينية، ولما كان ذلك غير متحقق لأن الإنجليز يكفلون الحرية الدينية، فإن ذلك لا يبرر الجهاد ضدهم». وإنه كان يدعو مسلمي الهند إلى الولاء لبريطانيا لا إلى السلطان عبد المجيد الذي ادعى لنفسه الخلافة على المسلمين كافة. وكما أوضحنا في مقالات سابقة فإن الرأي الديني الشائع بين مسلمي الهند منذ مطلع القرن التاسع أن الهند أصبحت دار حرب لا دار إسلام. وما قاله السيد أحمد خان هو بمثابة رد على ذلك الرأي.
وإذا كان رأي محمد عبده بأن الجهاد في الإسلام جهاد دفاعي هو الرأي الشائع لدى العرب المسلمين إلى ستينات القرن الماضي، فإن رأي السيد أحمد خان في هذه القضية كان غير مسلم به لدى كثيرين من مسلمي الهند.
هذا هو أحد الفروق بين المدرسة الإصلاحية العصرية في الهند، وبين المدرسة الإصلاحية العصرية في مصر. ومن الفروق التي لها صلة بموضوع حديثنا أن المدرسة الإصلاحية العصرية في الهند نشأت مع ظهورها مدرستان منافستان لها ذواتا طبيعة محافظة كمدرسة ندوة العلماء والمدرسة الديوبندية، الأكثر تشدداً دينياً من مدرسة ندوة العلماء، بينما لم يحصل مثل هذا الأمر مع المدرسة الإصلاحية العصرية في مصر، إلا في وقت متأخر وذلك مع نشوء جماعة الإخوان المسلمين، ومع نشوء حرب التحرير الإسلامي.
دفع رأي المدرستين الإصلاحيتين العصريتين في الهند وفي مصر في قضية الجهاد، لنلحظ أنه أتى من الهند وليس من مصر أو من بلد عربي آخر. أتى من الهند وبحلّة عصرية من قبل المنظر الأول للفكر الإسلامي الحركي، أبي الأعلى المودودي.
وسبب ذلك يرجع للظرف التاريخي الذي عاشه مسلمو الهند، ومنه أن حركات الجهاد الإسلامي في الهند في القرن التاسع عشر تمثل له القدوة والمثال في مواجهة المستعمر البريطاني وفي رفض الثقافة والتشريعات الغربية. ولأن آيات الحاكمية كانت تردد في تسويغ رفض التنظيمات والتشريعات البريطانية في سحابة القرن التاسع عشر، كان من المفهوم أن يبلور نظريته حول الحاكمية الإلهية.
إن حجم الرفض وعمقه في الاستفادة من الحداثة والتحديث الغربي عند مسلمي الهند، ليس له نظير في أي بلد إسلامي وعربي. والمثال الساطع على أن عملية الاستفادة هذه مرت بيسر وسلامة، هو تركيا ومصر.
إن مصر – على سبيل المثال - أدخل إليها نابليون بعض القوانين الفرنسية، وفي عهد عباس حلمي الأول ومحمد سعيد باشا أنشئ مجلس تمييز، وكان أعضاء هذا المجلس من الأعيان وقدماء الضباط الأتراك، ويضم إليهم عضو شرعي وكاتب. وفي عهد الخديوي إسماعيل أنشئ قضاء أجنبي وقضاء وطني. القضاء الأجنبي كان يسمى المحاكم المختلطة والقضاء الوطني كان يسمى المحاكم الأهلية. والمحاكم الأهلية كانت تحكم بقانون نابليون. وهناك قسم آخر من القضاء الوطني كان يسمى محاكم شرعية للنظر في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين والأقباط، كل حسب دينه. هذه التشريعات الجديدة لم تجابه من الشعب المصري برفض أو أنه أثار بسببها زوبعة دينية. وهذه التشريعات الجديدة لم يستشر الأزهر فيها. وهو لم يستشر فيها لأنه كان حتماً سيرفضها، لأنه في ذلك الوقت كان غير مواكب للعصر.
وفي مصر نشأت القومية المصرية وصار لها مناصرون كثر في مصر، ولم تقابل باعتراضات دينية واسعة.
إن ما ذكرناه استوقف جواهر لال نهرو في إحدى رسائله، وهي الرسالة التي كان عنوانها (كفاح مصر في سبيل الحرية) والتي كتبها في 20 مايو (أيار) 1933، فقال معللاً: «من المحتمل أن مسلمي الهند قد قاوموا هذا الاتجاه (يقصد الاتجاه التحديثي) أكثر من أي فئة إسلامية أخرى، ولذلك فإنهم محافظون ويتمتعون بعقلية دينية لا نجدها بهذه القوة عند نظرائهم في الدول الإسلامية الأخرى، إنها غريبة وهامة. فالقومية الجديدة تطورت بتطور الطبقات البرجوازية، وهي الطبقات الوسطى في النظام الرأسمالي. والمسلمون في الهند قد تلكأوا في تطوير البرجوازية، ولهذا أعاقوا تطور قوميتهم، ويجوز أن وجودهم في الهند كأقلية قد ضاعف من شعور الخوف وزاد في انكماشهم وحبهم المحافظة على التقاليد القديمة، لأنهم يشكون في كل فكرة جديدة».
إن حسن البنا مع أنه كان يرى أن الجهاد في الإسلام، جهاد دفاعي وهجومي، إلا أنه لم يجرؤ على مناقشة رأي محمد عبده ورأي أتباع مدرسته الذين كانوا من معاصريه. وهذا جانب لم تدركه الدكتورة حياة اليعقوبي في دراستها عن رسائل المودودي وحسن البنا وسيد قطب في الجهاد.
من اللافت أنه رغم شن جمال الدين الأفغاني حملة على السيد أحمد خان في كتابه (الرد على الدهريين) وفي مقالات له في مجلة (العروة الوثقى) شوه فيها سمعته الدينية والسياسية، فإن هذه الحملة لم تؤثر سلباً عليه عند رشيد رضا. فرشيد رضا كان مثمناً لخطه الإصلاحي، ودافع عنه إزاء التهم الموجهة إليه. وكان مغتبطاً بتشبيه دوره الإصلاحي من خلال مجلته مجلة (المنار) بالدور الإصلاحي الذي لعبته مجلة السيد أحمد خان (تهذيب الأخلاق) في الهند.
ولم يؤثر سلباً عليه عند مثقفين ليبراليين، كأحمد أمين وعباس محمود العقاد، فهما كانا من أنصار خطه الإصلاحي في الهند، رغم تقديرهما لفكر الأفغاني وشخصه.
أول كاتب استعاد حملة الأفغاني على السيد أحمد خان وزاد عليها هو الإسلامي غير الإخواني، الدكتور محمد البهي. وذلك في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) الذي صدر في عام 1958.
هذا الكتاب في نقده المتحامل على السيد أحمد خان استطاع أن يحقق ما لم تحققه حملة جمال الدين الأفغاني عليه.
فصورة السيد أحمد خان المشوهة عند الدينيين وعند الإسلاميين هي مستمدة في الأصل من هذا الكتاب. وهذا الكتاب ظل لعقود طويلة مرجعاً أساسياً عند الإسلاميين السنة والشيعة في كتبهم الثقافية والفكرية، ومرجعاً أساسياً ولعقود طويلة للدينيين والإسلاميين في رسائلهم العلمية التي كتبوها للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه.
وقد ساعد على إشاعة الصورة المشوهة عنه أن أصحاب الإسلام الأصولي من الهند وباكستان قبلوها ضمناً ولم يحاولوا أن يصححوها. الوحيد الذي حاول أن يصحح هذه الصورة هو محمد إسماعيل الندوي، لكن هذا التصحيح غير معروف عند القراء، لأنه قد جاء في أسطر في مقال نشره في مجلة (الأزهر) عام 1961 وفي أسطر في مقال نشره في مجلة (الثقافة) عام 1965.
قبل زحف الإسلام الهندي الأصولي إلى البلدان العربية ابتداء من منتصف القرن الماضي، كانت الأسماء الهندية المسلمة المتداولة في مصر هي الأسماء الإصلاحية العصرية. وكانت الأسماء المنتمية للإسلام الهندي الإصلاحي والعصري من جيل ما بعد الحربين العالميتين لها إلى حد ما حضور في المشهد الثقافي المصري، إما عن طريق كتابة مقالات في المجلات الثقافية المصرية وإما عن طريق إلقاء محاضرات.
وبعد ذلك الزحف حجب عنا في العالم العربي التعرف والتفاعل مع الإسلام الهندي الإصلاحي والعصري. والمسؤول عن هذا الحجب أصحاب الإسلام الأصولي في الهند والإسلاميون الأصوليون العرب، من خلال ترجمة كتب المودودي إلى العربية، ومن خلال مؤلفات الندوي المكتوبة باللغة العربية، ومن خلال ترجمة كتب آخرين يمثلون هذا الإسلام، ومن خلال مقالات منشورة في المجلات الإسلامية، ومن خلال محاضرات كانت تلقى في بلدان عربية كثيرة. وكانت أسماء رواد الإسلام الهندي الإصلاحي العصري لا ترد إلا من خلال إدانة دينية شاملة.
كنت في مقال سابق قد بينت أن سبب تأليف الشيخ محمود شلتوت لكتابه (القتال في الإسلام) هو الرد على ما يثيره المبشرون المسيحيون الغربيون حول الجهاد الإسلامي، وليس – كما قال أستاذنا رضوان – أنه ألَّفه للرد على ربط الجهاد بالكفر عند المسلمين. وتحدثت عن المناخ الذي في ظله ألَّف هذا الكتاب وعن تاريخه وعن أصل الكتاب بما فيه الكفاية: بينت كل هذا، ومع هذا لا أجد بأساً بذكر هذه المعلومة.
في المجادلة التي حصلت بين مسعود الندوي ومحمد كمال الخطيب في العراق عام 1949، قال مسعود الندوي في بداية المجادلة: «إن العلماء في مصر ابتداء من محمد عبده، وحتى الآن يقولون بأن الجهاد هو جهاد دفاعي (سلبي). ومن المحير أن عبد الوهاب خلاّف في كتابه (السياسة الشرعية) وعبد الرحمن عزام في كتابه (الرسالة الخالدة) ومحمد حسين هيكل في كتابه (محمد) يرددون أيضاً هذا الأمر، ويقولون بأنه جهاد دفاعي، ويبدو أن هؤلاء الناس يفهمون الحقيقة، ولكنهم يخشون قولها، خوفاً من علماء أوروبا، وهذا هو ما يطلق عليه الشعور بالنقص أو العقلية الانهزامية، وهو أمر يدعو للأسف».
نستخلص مما قاله مسعود الندوي أن الرأي المستقر والمشهور في مصر هو أن الجهاد في الإسلام جهاد دفاعي، وأن الإسلام الهندي الأصولي يسعى إلى تغيير هذا الرأي الذي يحصر الجهاد الإسلامي في الجهاد الدفاعي. وللحديث بقية.