مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

فجوة المال... والأحوال

يشهد العالم تغييرات سياسية واجتماعية غير مسبوقة، يعود جزء كبير منها إلى التقلبات الاقتصادية التي تمر بها دول عدة، على رأسها الدول الصناعية والدول الاقتصادية الرائدة. هذه التقلبات وليدة عصر التغيير السريع، من تأثير الماكينات على القطاعات الإنتاجية والصناعية، إلى تراجع نقابات العمال والصناعات التقليدية. وبالطبع التقلبات الاقتصادية لديها تأثير مباشر على مجتمعات هذه الدول، أي أن مستوى الدخل ونسبة البطالة يؤثران على فئات مختلفة من المجتمع.
اليوم نتابع تطوراً سلبياً يؤثر على العالم بأسره. فالفجوة المالية بين الطبقات المجتمعية والاقتصادية في تصاعد مستمر. وبحسب تقرير «اللامساواة في العالم» لعام 2018، فالفجوة بين أغنى سكان العالم وأفقرهم تزداد وبشكل متصاعد. ويبين التقرير، القائم على إحصاءات رسمية من وزارات ومؤسسات دولية، أن مستوى اللامساواة في الشرق الأوسط هو الأعلى في العالم، بينما المستوى الأدنى في العالم يقع بالقارة الأوروبية. ففي الشرق الأوسط، العُشر الأعلى دخلاً يستحوذ على 61 في المائة من الدخل القومي لدول المنطقة، بينما في أوروبا هذه النسبة تمثل 37 في المائة. ولكن على كل حال، الفجوة في تصاعد. ومن اللافت أن التقرير يبين أن بين عامي 1980 وعامنا هذا، نسبة اللامساواة تتصاعد في كل مناطق العالم، بنسب متفاوتة. وهناك أسباب ملموسة لذلك؛ خاصة أن النظام المالي العالمي الحالي يفضل الأثرياء، وميسر ليزيد من ثرائهم بشكل ممنهج، من خلال الاستثمار والفرص المصرفية الخاصة بذوي الدخل الأعلى.
بحسب تقرير مصرف «كريدي سويس»، فإن 10 في المائة من سكان العالم يملكون 85 في المائة من ثروة العالم. وبحسب التقرير نفسه، نصف الراشدين على الكرة الأرضة يملكون أقل من 1 في المائة من ثروة العالم. هذه إحصاءات لا يمكن تجاهلها. هناك مسؤولية أخلاقية؛ لكن أيضاً ضرورة استراتيجية للتعامل مع هذه الفجوة المالية. ترك المحتاجين – وخاصة الشباب منهم – لوضع بائس لا يؤدي إلا إلى اليأس. وترك الفجوة الاقتصادية تكبر يؤدي إلى شرخ في المجتمع، وانقسامات صعب التخلص منها كلما مرت السنين عليها. لذلك من الضروري اتخاذ الجهات المعنية خطوات ملموسة لتقليل الفجوة بين أغنى سكان بلد ما، ومن يعاني من التحديات الاقتصادية فيه.
تشكل المملكة المتحدة مثالاً بارزاً لدولة غنية لم تقم بواجبها تجاه الطبقة الأدنى، من حيث الدخل الإجمالي. فعلى الرغم من أن بريطانيا تعتبر خامس أكبر اقتصاد في العالم، فإن نسبة الفقر فيها وصلت إلى 20 في المائة، بحسب تقارير من «مؤسسة الدراسات المالية» و«مؤسسة جوزيف راونتري» البريطانية. وأدت تصريحات مسؤول الأمم المتحدة حول الفقر المدقع وحقوق الإنسان، فيليب ألستون، إلى ضجة في المملكة المتحدة الأسبوع الماضي، عندما أنهى مهمة تقصي، ووجد أن مستوى الفقر بين أطفال المملكة المتحدة «ليس فقط وصمة عار؛ بل مأساة اجتماعية وكارثة اقتصادية». وأساس المعاناة للأطفال في المملكة المتحدة يمتد إلى تراجع السياسات الاجتماعية الداعمة للمحتاجين، واتباع سياسات التقشف خلال العقد الماضي.
ومنذ الأزمة الاقتصادية قبل عشرة أعوام، زادت سياسات التقشف في دول صناعية عدة. ولكن هناك مؤشرات على أن الرؤساء التنفيذيين المسيطرين على كبرى الشركات المالية، غير مدركين مدى تأثير الأزمة الاقتصادية على شرائح واسعة من المجتمع حول العالم. وأن سياسات التقشف التي اتبعت للحد من الأزمة المالية التي تسببت فيها البنوك الكبرى أثرت على أضعف الفئات.
وعلقت مفوضة التجارة الكندية أيليش كامبل، خلال ندوة ضمن فعاليات «منتدى الاقتصادات الجديدة» في سنغافورة بداية هذا الشهر: «علينا أن نعي أن أزمة اقتصادية أسبابها صعبة الفهم لغالبية الناس، أدت إلى فقدان الآلاف منازلهم. كان هناك شعور عند الذين فقدوا منازلهم بأنهم غير مسيطرين على مسار حياتهم نهائياً». كما أن أزمة الديون وانهيار عدد من البنوك أدت إلى أزمة فقدان الثقة بالمؤسسات الرسمية في الغرب. وهناك تبعات سياسية أدت إلى صعود التيارات الشعبوية، رداً على الفئات المترفة والمقربة من قوى السلطة التقليدية التي أنقذت البنوك، ولكن تركت الآلاف من العائلات تتشرد. ولا شك أن صعود الأحزاب اليمينية المتعصبة في دول مثل إيطاليا واليونان مرتبط بالأزمة الاقتصادية التي اجتاحت البلدين.
بالطبع هناك حالات من الفقر وانعدام التنمية أسوأ بكثير من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، ولكن الأمر الذي يهمنا هو مستوى معيشة الغالبية والفجوة بين الطرفين. وفي «منتدى الاقتصادات الجديدة» الذي نظمته مؤسسة «بلومبيرغ»، تم التطرق إلى قضايا اللامساواة في الاقتصادات الصاعدة، مثل الصين والهند ودول القارة الأفريقية. وفي تلك الدول النمو الطويل الأمد سيعتمد على سد الفجوة الاقتصادية، وزيادة نسبة الطبقة الوسطى.
الطبقة الوسطى تبقى العمود الفقري لأي مجتمع حي واقتصاد فعال. ويجب اتخاذ السياسات الملائمة لدعم تلك الطبقة، بالإضافة إلى محاربة الفقر. مع التعديلات في قوانين الضرائب ورفع الدعم عن السلع الأساسية – وهي جزء مهم من السياسات التي تحبذها المؤسسات المالية الدولية – يجب اتخاذ خطوات ملموسة لوضع شبكات أمان للفئات المستضعفة في المجتمع. كما أن التركيز على فرص التعليم والعمل للأجيال الشابة أساسي لمنحهم فرصة التقدم في الحياة والمجتمع. وإلا ستزداد الفجوة المالية، ومعها الفجوات الاجتماعية.