د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

سد النهضة... «صداع» في رأس مصر

كلما التقى مسؤول مصري مع نظير له من إثيوبيا، يكون الحديث دائماً عن كيفية إنهاء الخلاف الفني بشأن سد النهضة الذي تتوجس منه مصر كثيراً، وتترقب نتائجه الكارثية حال الانتهاء من بنائه، والبدء في ملئه وتشغيله دون تفاهمات واضحة وملزمة. وكما يحدث دائماً تأتي الردود الإثيوبية إيجابية، ولكنها تظل محصورة في دائرة الكلام دون ترجمته إلى فعل. وهو ما حدث مؤخراً حين التقى وزيرا خارجية البلدين في أديس أبابا على هامش الاجتماعات الوزارية للتحضير للقمة الأفريقية الاستثنائية.
هذه الفجوة ما بين الإشارات الإيجابية للمسؤولين السياسيين الإثيوبيين، وبين التباطؤ المتعمد من قبل المسؤولين الفنيين المعنيين بملف التفاوض حول المعايير الفنية التي سيقبل بها الأطراف الثلاثة المعنية بسد النهضة ونتائجه، وهم مصر والسودان وإثيوبيا، تسبب كثيراً من القلق المصري، وتسبب صداعاً مزمناً، لكونها تؤدي إلى استهلاك الوقت دون نتائج محددة، وفي الآن نفسه يستمر العمل في بناء السد إلى أن يصبح واقعاً تقوم إثيوبيا بإدارته وتشغيله وملئه، بعيداً عن أي تفاهمات أو اتفاقات أو ضوابط معينة تراعي الحقوق المصرية التاريخية في مياه النيل. وهنا تكمن المشكلة الأكبر التي يبحث لها المصريون عن حل مُرضٍ.
في اتفاق المبادئ الموقع بين الرؤساء الثلاثة: السيسي والبشير وديسالين، بالخرطوم، في مارس (آذار) 2015، عدة مبادئ مستقاة من المعاهدة الدولية لاستغلال الأنهار؛ لكن النقطة الأضعف في تلك الوثيقة أنها لم تشر لا من قريب ولا من بعيد للحقوق التاريخية لمصر والسودان، ولم تشر إلى الاتفاقيات الموقعة بشأن تلك الحقوق، لا سيما اتفاقيتي 1929 و1959، وهما اتفاقيتان لا تعترف بهما إثيوبيا، باعتبارهما من ميراث الاستعمار، ولأنهما وقُعتا بعيداً عنها.
الاستراتيجية الإثيوبية - وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم - بشأن مياه النيل، تقوم منذ القدم على مبدأين متداخلين؛ أولهما أن مياه النهر ملك لإثيوبيا، ولها أن تستفيد منها كما تشاء دون تدخل من أي طرف آخر، والثاني أن إثيوبيا لن توقع أي وثيقة بشأن مياه النهر تلزمها بضوابط أو التزامات معينة تجاه الغير، سواء فنية أو سياسية. ومجمل المبدأين أنها لا تعترف بحقوق تاريخية لأحد، ولا تلزم نفسها بحصص معينة للغير، وهما تحديداً مصر والسودان. والحقيقة أن بعض التطورات التاريخية أعطت لهذين المبدأين بعداً أفريقياً مسانداً. فمنذ عام 1995 حين تعرض الرئيس الأسبق مبارك لمحاولة اغتيال في أديس أبابا، ابتعدت مصر كثيراً عن المحافل الأفريقية، ولم يكن حضورها إلا على مستوى وزاري فقط، وهو ما اعتبرتها بعض الدعايات الأفريقية، وفي مقدمتها الإثيوبية، نوعاً من الاستعلاء المصري على أفريقيا، ودليلاً على أن مصر تنظر لدول حوض نهر النيل نظرة استغلال وتجاهل.
وطوال الفترة الماضية، وتحديداً منذ منتصف 2014، حين تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي سدة الحكم، التزمت مصر استراتيجية من ثلاثة محاور؛ أولها إعادة الروح للتقارب والتعاون مع أفريقيا في كافة المجالات، وبما يعيد الاعتبار لمبدأ أن مصر بلد أفريقي يهمه ما يهم الأفارقة، ويتعاون مع بلدان القارة لإنهاء معاناة شعوبها. والمحور الثاني يركز على حق دول حوض النيل في التنمية، وفي الآن نفسه الحفاظ على حقوق مصر التاريخية في المياه وفي غيرها من المجالات. وبالتطبيق على سد النهضة، وكما عبر عن ذلك صراحة خطاب الرئيس السيسي أمام أعضاء البرلمان الإثيوبي، في مارس 2015، أن مصر تدعم بناء سد النهضة، ولكنها تتوقع وتنتظر من إثيوبيا أن تحترم حقوقها التاريخية في مياه النهر، والمقدرة بـ55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وضرورة معالجة الهواجس المصرية في هذا الشأن بوضوح، وفي وثيقة رسمية ملزمة. أما المحور الثالث، فيتعلق بإحياء مفاهيم التعاون الإقليمي الذي ينتج آثاره الإيجابية على الجميع، وهو ما تبلور في صيغة الاتفاقات الثلاثية مع كل من السودان وإثيوبيا، لإنشاء الصندوق الثلاثي للتنمية بين البلدان الثلاثة، والمتفق عليه بالقاهرة، في يوليو (تموز) 2018، ولكنه لم يصل بعد إلى صيغة مؤسسية وتنظيمية محددة، وبحاجة إلى مفاوضات مكثفة، وقبل ذلك إلى نيات حسنة من الجميع.
ووضعاً في الاعتبار هذه المحاور الثلاثة للاستراتيجية المصرية، يمكن فهم لماذا قبل المفاوض المصري اتفاق المبادئ المُشار إليه، رغم كونه جاء خالياً من أي إشارة إلى حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، ورغم أن بناء السد سوف يحمل معه ثلاثة أضرار بالغة على حياة المصريين جميعاً، في الزراعة والسياحة والصناعة ومياه الشرب، فمجرد انخفاض حصة مصر بخمسة مليارات متر مكعب في حال ملء خزان السد الإثيوبي على مدى 15 عاماً، وصولاً إلى كميته القصوى البالغة 74 مليار متر مكعب، سوف يكلف مصر سنوياً نحو 75 مليار جنيه مصري في قطاع الزراعة وحده، وسوف يتضاعف الرقم إلى ستة أضعاف في حال ملء السد على مدى ثلاث أو خمس سنوات. ولذا يبدو أمام كثير من المحللين أن ثمة فجوة كبيرة ما بين استراتيجيتي التعامل المصرية والإثيوبية بشأن سد النهضة. صحيح لقد تم تجاوز فترة الاتهامات الأفريقية لمصر، وهناك تقدير إيجابي بشكل عام لتوجهات مصر الأفريقية، إلا أنها لم تتبلور بعد في وثيقة ملزمة بشأن سد النهضة، تعالج الأضرار المؤكدة من بناء السد.
ووفقاً لآخر الاجتماعات الفنية بين البلدان الثلاثة، فما زالت هناك ثلاث نقاط بالغة الصعوبة يرفض الجانب الإثيوبي الاتفاق بشأنها، وهي النقاط الأساس التي سيعتمد عليها المكتب الاستشاري الفني الفرنسي في تحديد التأثيرات السلبية المنتظرة بيئياً: أولاً يطالب المصريون بأن يكون خط الأساس البحر المتوسط، أي أقصى نقطة للمصب، بينما يطالب الإثيوبيون بأن تكون ما وراء السد العالي جنوب مصر، ما يعني عدم الاعتداد بالتأثيرات المتوقعة على كامل الأراضي الزراعية المصرية وكامل حياة المصريين. وثانياً ما يتعلق بفترة الملء للخزان خلف السد، فبينما يصر المصريون على أن تكون سبع سنوات أو أكثر، يصر الإثيوبيون على أن تكون ثلاث سنوات وحسب، وهي مدة قصيرة وسوف تحرم مصر من 20 مليار متر مكعب سنوياً، ما يوازي 40 في المائة من حصتها التاريخية. وثالثاً ما يتعلق بقواعد التشغيل، ومدى اطلاع دولتي المصب على خطط التشغيل بصورة دورية، تحسباً للطوارئ، وهل سيراعى تشغيل السد فترات انخفاض الأمطار أم لا.
وما دام التفاهم حول هذه النقاط الفنية المهمة مجهولاً وبعيد المنال، فستظل مصر قلقة على حياة شعبها، ومن حقها أن تبحث عن بدائل أخرى في التفاوض.