علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

في أصل التسمية وسببها

يحاجج الذين يؤكدون على تأثر الحركة الفرائضية بالدعوة الوهابية، بأن صاحبها ومؤسسها، حاجي شريعة الله، قد مكث في الحرمين الشريفين عشرين عاماً. وينسون أن هذه العشرين عاماً تقع بين عامي 1782 و1802، حيث كان الحجاز في هذا التاريخ بيئة سياسية وبيئة دينية مناوئة للدعوة الوهابية ولدولتها الدولة السعودية الأولى، والتي أدت سياسياً إلى شن الشريف غالب بن مساعد حروباً على الدولة السعودية الأولى، انتهت بانتصار الدولة السعودية الأولى وضم الحجاز إلى سلطتها مع إبقاء الشريف غالب أميراً على مكة سنة 1805. وهذا الضم استمر سنوات قصيرة، وكان مجرد نفوذ وسيطرة سياسية، ولم يستتبعه انتشار للدعوة الوهابية في أرض الحجاز أيام الدولة السعودية الأولى.
إن المرجع والملهم لتلك الحركات الإسلامية الجهادية التي انتعش نشاطها بدءاً من الربع الأول من القرن التاسع عشر هو المصلح والعالم الديني شاه ولي الدين الدهلوي – الذي هو معاصر للمصلح الديني الشيخ محمد بن عبد الوهاب – وحلقة الوصل بينه وبينها هو ابنه شاه عبد العزيز الدهلوي. وكذلك هو المرجع والملهم للمدرسة الديوبندية ومدرسة ندوة العلماء وأهل الحديث والجماعة الإسلامية، والمرجع والملهم للعصريين والتحديثيين في مدرسة عليكرة.
نرجع الآن إلى أصل التسمية وسبب تسمية الحركات الإسلامية الجهادية الهندية بالوهابية وبالوهابيين.
صورت الدعوة الوهابية مع ظهورها في القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر من قبل خصومها الدينيين على أنها مذهب بدعي، وأن أصحابها طائفة ضالة. ولأنها كانت بهذه الصورة الزائفة لديهم فلقد سمت اتجاهات دينية ومشايخ حركات الجهاد الإسلامي، وفي طليعتها حركة المجاهدين التي يقودها أحمد الباريلي، بالوهابيين واعتبرتها امتداداً للدعوة السلفية في نجد ومتأثرة بها، وذلك للتشنيع عليها والتنفير منها.
الإدارة البريطانية الاستعمارية التي تأذت من هذه الحركات الجهادية استخدمت هذه التسمية للغرض نفسه.
للتأكيد على القضية التي أشير إليها، ألفت نظر القارئ إلى أن أول كتاب في الدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، صدر في الهند، صدر في عام 1941، باللغة الأردية. وهذا تاريخ - كما نرى - متأخر.
هذا الكتاب هو «محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه» لمسعود الندوي، الذي هو سلفي ومن أتباع أبي الأعلى المودودي. وفي مقدمة كتابه يخبرنا أن النماذج الأولية للكتاب ظهرت في مجلتين هنديتين في منتصف ثلاثينات القرن الماضي. وفي الباب الأخير من الكتاب الذي هو نظرة في مصادر كتابه، نعلم منه أن أول مقال كتب على النقيض من الصورة الزائفة عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كتب في عام 1924. هذا المقال كتبه سيد سلمان الندوي في مجلته مجلة «معارف» الهندية. وإزاء ملحوظة أبداها المؤلف حول موقف العالم السلفي والثري والوجيه صديق حسن خان (ت 1890) من الدعوة الوهابية في كتبه المختلفة، قال مترجم الكتاب والمعلق عليه عبد العليم عبد العظيم البستوي كلاماً في الدفاع عنه فيه بيان فحوى الموقف السياسي البريطاني والموقف الديني الشعبي من الدعوة الوهابية في الهند في القرن التاسع عشر، وهو مكون من ثلاث نقاط، سآتي باثنتين منها.. يقول: «كانت القوة الحربية للمجاهدين في الهند تشتتت في سنة 1246هـ (1831م) في معركة بالاكوت، أي قبل ولادة صديق حسن خان بسنتين، ولكن سلسلة التعذيب والتشريد والنفي والقتل كانت مستمرة وبكل شدة في المدة التي عاشها صديق حسن رحمة الله. حتى إن كل من رفع يديه في الصلاة أو جهر بآمين كان معرضاً لأشد أنواع الأذى لأنه وهابي. كان صديق حسن خان رحمه الله قد بلغ رتبة عالية في أمور الدنيا مع منزلته العليا في العلم والتقى، وهذا لم يرق الأعداء المخالفين، فكانوا يتربصون به الدوائر، يتملقون المستعمرين البريطانيين ويتمنون إقصاءه من منصبه، وكانت جريمته التي وشوا بها لدى المستعمرين أنه ينشر المذهب الوهابي، وأنه يريد أن ينظم حركة الجهاد الإسلامي. وما أحسنها من جريمة. ومن هنا نعلم أن صديق حسن خان رحمه الله لم يكن في موقف يستطيع أن يدافع عن هذه الدعوة كما تمكن من أتى بعده. فكان الشغل الشاغل لدى صديق حسن خان كغيره من زعماء الموحدين في الهند في ذلك الوقت هو الدفاع عن أرواح الموحدين في الهند وأموالهم وأعراضهم الذين كانوا يؤخذون بجريمة (الوهابية). يقتلون وينفون ويشردون. ولذلك فالأمر الغالب في كتاباته وكثير من علماء أهل الحديث في ذلك الوقت هو بيان أن الموحدين في الهند ليست لهم صلة مع أهل نجد، وهم كانوا على حق في ذلك، فالموحدون في الهند لم يتعلموا عقيدتهم من أهل نجد ولكنهم تعلموها من الكتاب والسنة، فالتقوا مع أهل نجد ومع غيرهم على جادة الحق وصراط الهدى».
في الباب ما قبل الأخير والذي يحمل عنوان «افتراءات وأكاذيب» ينقل المؤلف – وهو يعرض لفريتهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب للنبوة – قول كريشنا في مذكراته: «ولقد كان هذا المصلح يرى أنه لم يوجد إلهام لأي إنسان على طريق مباشر من عند الله...».
يعرفنا المؤلف بكريشنا وبمذكراته، فيذكر أنه كان حاكماً لمديرية بتنه عام 1865، وأنه كتبها أثناء محاكمة الشيخ أحمد الله الصادقبوري أحد قادة ثورة الهند الكبرى التي حصلت ما بين عامي 1857 و1858، وأنه طبع مذكراته كلها في ملحق لمجلة «كلكتا كزت» في 20 سبتمبر (أيلول) 1865.
وفي عرض فرية إنكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأمور فقية يقول المؤلف: «وأعجب من ذلك الاتهام الذي لا أصل له قد ردده كاتب معروف في بلادنا، وهو عبد الله يوسف علي، في هذا القرن العشرين»، وينقل عنه قوله في كتابه «تاريخ الهند الثقافي تحت الحكم البريطاني»: «وكان كرامت علي يؤمن بأحاديث، وقد رفضها الوهابيون. وإنه مؤيد للعقائد الصوفية القديمة». ويعلق على قوله هذا ساخراً: «هذا مبلغ معرفة مترجمنا للقرآن الكريم عن جماعة إسلامية». وعبد الله يوسف علي هو أشهر مترجم للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية. أما كرامت علي فهو في الأصل من أتباع حركة أحمد الباريلي ثم تحول إلى الحركة الفرائضية.
يؤكد مسعود الندوي في كتابه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن حركة تجديد الجهاد التي قام بها أحمد الباريلي وإسماعيل الدهولي لم تتأثر أبداً بالدعوة السلفية في نجد. وفي الصفحة التي جاء فيها هذا التأكيد وضع هامشاً، ذكر فيه أنه فصّل في هذه المسألة في كتابيه: «الحركة الإسلامية الأولى في الهند» و«نظرة على أفكار الشيخ السندي»، لكن كتابيه هذين لم أعثر على ترجمة لهما. وأنوه هنا أنني في المقال السابق سهوت عن ذكر اسمه مع الاسمين الذين ذكرت أنهما في حدود قراءاتي ينفيان تأثر الحركات الجهادية بدعوة الشيخ محمد عبد الوهاب السلفية، سهوت عن ذكر اسمه مع أنه سبق لي أن اطلعت على كتابه الذي أوردت في هذا المقال نقولاً كثيرة منه.
قد يكون أقدم مصدر أوروبي مكتوب ردد أن حركات الجهاد الإسلامي في الهند هي وهابية، وكرر أنها متأثرة بالحركة الوهابية، هو كتاب وليم ولسون هنتر: «المسلمون الهنود: هل هم ملتزمون ضميرياً بالتمرد على الملكة؟»، والذي نشر أول مرة عام 1871. وليم ولسون هنتر كان مؤرخاً وعامل إحصاء يعمل عضواً في جهاز الخدمة المدنية بالهند في وظيفة مشرف إداري على منطقة البنغال. وكان مشرفاً على جمع السجلات عن الهند من عام 1869 إلى عام 1881، وقد صدرت هذه السجلات في تسعة مجلدات.
كتابه المشار إليه عبارة عن تقرير رسمي حكومي يتضمن تحليلاً لدوافع المسلمين الهنود الدينية في معاداة بريطانيا، ووصفاً لأوضاعهم. وهذا التقرير كان مرفوعاً للحكومة البريطانية. الدراسات الاستشرافية التي تعرضت للثقافة الإسلامية ولاتجاهاتها في القرون الحديثة في الهند وللحركات الإسلامية فيها قالت بتأثر هذه الحركات بالدعوة الوهابية عن حسن نية، لأن هذا هو الرأي الشائع في الهند، ولأنه توجد بعض المشتركات في الأفكار بين عقيدة تلك الحركات وعقيدة الدعوة الوهابية السلفية. ولأن الحركة الوهابية ظهرت قبل أن تظهر تلك الحركات، وأخيراً لأن أصحاب تلك الحركات سبق لهم أن ذهبوا إلى مكة في رحلة حج أو جاوروا الحرمين الشريفين. وكذلك قال بهذا الرأي بعض الليبراليين المصريين عن حسن نية، اعتماداً على ما ذكرناه سابقاً.
الشاعر والمفكر محمد إقبال قال به من فرط حبه وإعجابه بالحركات الوهابية: «هذه الحركة مصدر الإلهام بصفة مباشرة أو غير مباشرة لمعظم الحركات الكبرى الحديثة بين مسلمي آسيا وأفريقية كالحركة السنوسية، وحركة الجامعة الإسلامية، والحركة البابية التي ليست سوى صدى فارسي للإصلاح الديني العربي». ولا حاجة لتوضيح الخطأ فيما قاله، لأن التهويم الشعري والسبحات الصوفية ظاهران في هذا الكلام.
الإسلاميون ــ على مختلف تياراتهم ــ الذين قالوا في مرحلة متأخرة بتلك المسألة، هم ــ أيضاً ــ قالوها بحسن نية، وكانوا مدفوعين بالفخر والافتخار بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية. وللحديث بقية.