حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

الدوران حول معضلة التغيير

يقول عدد ممن تناول الثورات العربية في الأعوام القليلة الماضية، إن فشل الثورات هذه يعود إلى النقص في تقبل الشعوب العربية للديمقراطية ولمقولات التغيير السياسي العميق، بالإضافة إلى عدم تقبل فطري للحداثة ولأفكار المساواة بين الرجل والمرأة، وغيرها من القيم التي نادت بها الحشود في الميادين سنة 2011.
يضيف هؤلاء، إن ثورات تخرج من المساجد ستسلّم، من دون ريب أو شك، المجتمعات إلى جماعات الإسلام السياسي التي ستقيم حكومات لا تقل تعطشاً إلى السلطة المطلقة ممارسة للاستبداد عن سابقاتها التي وصل قادتها إلى الزعامة على ظهور الدبابات وهم يرفعون شعارات الاشتراكية والتقدم. أما الانتخابات فيرون أنها ستعيد تكريس الولاءات ما قبل الدولتية، وستضفي الشرعية على تأويل حزبي، «إخواني» أو «داعشي» للشريعة. عليه، ينبغي الاهتمام بما يجب ملء «صندوق الرأس» به قبل الانصراف إلى الاهتمام بملء «صناديق الاقتراع». لعل الشاعر السوري أدونيس من أبرز المدافعين عن وجهة النظر هذه، في حين أن كتابات سابقة للراحل جورج طرابيشي تصبّ في السياق ذاته على الرغم من أنه لم يكثر، قبيل وفاته، من الحديث عن الثورة التي قامت في بلده سوريا. في حين يذهب آخرون، مثل عزيز العظمة إلى اعتبار الخطر الأصولي أصل كل علة وبلاء، وأن الإسلاميين لا يمتلكون إمكانات التغيير الثوري حتى يصنفوا مع المناهضين للاستبداد.
كتّاب ومثقفون آخرون اعتنوا بمسألة الثورات العربية، كانت لهم آراء تتلخص في أن إطاحة الاستبداد والديكتاتوريات بأشكالها كافة، ستفتح المجال أمام انطلاق آليات سياسية تستخدم حرية التعبير عن الرأي والحريات المدنية على أنواعها لتكريس الانتقال السياسي نحو حكم أكثر عدالة وأشد اهتماماً بمسائل المساواة وتقليص التفاوت الاجتماعي المولد للصراعات. وستؤدي هذه الآليات، بعد التخلص من الطغاة، إلى توسيع القاعدة السياسية للأنظمة المقبلة وإشراك فئات لطالما اعتبرت هامشية ومغيبة عن المشهد العام، في الحياة السياسة والاقتصادية والثقافية. مشكلة تصدّر الإسلاميين للثورات وسعيهم إلى الاستيلاء عليها وتحويل الحكومات الجديدة إلى حكومات دينية، مشكلة حقيقية، بيد أن الفئات الاجتماعية التي ستستفيد من إسقاط الاستبداد ستكون قادرة على التعامل معها وتجاوزها. من بين من كتبوا في هذا الاتجاه، في الأعوام الأولى على الأقل للثورات العربية، كان المفكر الراحل صادق جلال العظم.
لكل من المقاربتين حجج يمكن الدفاع عنها على ما هو جليّ. فالنهايات التي وصلت إليها الثورات في سوريا ومصر وليبيا تعزز المقاربة الأولى، في حين تظهر تونس تأكيداً على صحة المقاربة الثانية؛ ما يعطي الانطباع بأن صحة أو خطأ كل واحدة منهما يرجعان (الصحة والخطأ) إلى المعطى الموضوعي لكل واحدة من الثورات، على الرغم من أن الهزيمة كانت السمة العامة للثورات العربية.
النظر إلى أسباب تراجع مشروعات التغيير العربية التي بدت حتمية في مرحلة ما وأن «لعنة الاستثناء العربي» قد رُفعت أخيراً، يقود إلى المصالحة بين المقاربتين المذكورتين: لا بد من التزامن بين الثورة السياسية التي تنهي حالات الاستبداد وبين ثورات في مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة. ذلك أنه من المحال إرساء حكم يأخذ العدالة الاجتماعية والتنمية هدفين أساسيين له من دون أن يعتمد موقفاً جذرياً من الإرث الاجتماعي والثقافي، ومن دون أن يفكك ويعيد بناء كامل المنظومة الاقتصادية التي أبقت الأنظمة الاستبدادية كل هذه السنوات.
التزامن هذا يتطلب شرائح اجتماعية تعي مصلحتها على النحو الذي أدركت البرجوازيات الأوروبية الإعاقة التي يشكلها النظام الإقطاعي أمام ازدهار الأعمال والصناعة... الوعي البرجوازي الأوروبي المبكر لهذه الحقيقة، منذ ثورة أوليفر كرومويل في بريطانيا القرن السابع عشر، ثم الثورة الفرنسية في القرن التالي، وصولاً إلى ثورات «ربيع الشعوب» سنة 1848 في أكثر العواصم الأوروبية. النتائج المباشرة للثورات هذه قد لا تكون كبيرة الأهمية؛ إذ إن بعضها فشل فشلاً ذريعاً في الوصول إلى أهدافه في حين عاد «النظام القديم» إلى الحكم في أماكن أخرى. ما يعنينا هنا أن هذه الثورات أشّرت إلى نضوج مكونات التغيير الثوري في هذه البلدان، وهو ما تحقق تدريجياً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وسقوط جدار برلين.
ما يعانيه العالم العربي ويحول، في نهاية المطاف، دون التغيير المنشود، متعدد الوجوه: يتعين الاعتراف بأن مؤيدي استبدال الحكومات الحالية لا يشكلون أكثرية وازنة، وأن امتناعهم عن اللجوء إلى العنف تركهم أقلية مستضعفة بين قوى شرسة ومستعدة لفعل كل شيء في سبيل الاستحواذ على السلطة. تتمثل هذه القوى في صفوف المعارضة الإسلامية وفي دوائر الحكومات. فمن نزل إلى الشوارع في تونس والقاهرة والمدن السورية وبنغازي وغيرها، لا يمتلك مشروعاً للهيمنة السياسية والثقافية أو بدائل قابلة للتنفيذ الفوري، على الرغم من أنه كان يقف «في الجانب الصحيح من التاريخ».
كما لا خجل من الإقرار بأن ما وعدت به الثورات العربية أثار ذعراً لدى الفئات المحافظة التي لاحظت في وقت مبكر أن التحرر من الاستبداد والقمع السياسيين سيقود إلى دعوات إلى كسر السلطات الاجتماعية والبطريركية في العائلة والمدرسة والجامعة والشارع. فضّل المحافظون الركون إلى ما يطمئنون إليه من أشكال حكم ولو كانت على شكل ديكتاتوريات عسكرية، من خوض مغامرة التغيير التي ستنزع من أيديهم أساليب السيطرة والهيمنة في المجتمع والاقتصاد والثقافة.
المعضلة الثالثة يشكلها غياب الحد الفاصل بين الداخل والخارج. ومثلما قدم الخارج، عبر القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت وثورة الاتصالات عموماً، النموذج الحي على إمكان السير نحو حياة متحررة من نير الاستبداد، فرض الخارج فرضاً غير مباشر تقديم مصالحه ومخاوفه على مصالح الشعوب التي ساندت الثورات. استقرار الشرق الأوسط حتى لو كان أشبه باستقرار المقابر، مقدّم في الغرب على الاضطراب الذي سيدفع موجات اللاجئين إلى شواطئ أوروبا. بل إن الثورات العربية لا يمكنها النجاح «لأن مزارعين وأطباء أسنان» يخوضونها ضد أنظمة عسكرية متوحشة على ما قال باراك أوباما ذات يوم بعنجهية قلّ نظيرها.
اتفاق الظروف الممهدة لثورات مقبلة ما زال بعيد المنال في عالمنا العربي، لكن ذلك لا ينفي أن الأمور اليوم ليست أحسن مما كانت عليه قبل 2011.