نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

اقتصاد أميركي رائع لا يبدو رائعاً... ما السر؟

وصف جون ويليامز، رئيس بنك نيويورك الفيدرالي، الاقتصاد الأميركي بأنه «قوي». أما محطة «سي إن إن»، فقالت إنه «في ارتفاع شديد»، بينما وصفته صحيفة «واشنطن بوست» بـ«الجيد». أما أنا، فوصفته بأنه في حالة «ازدهار».
ومع هذا، يتساءل آخرون كيف يمكن أن يكون هذا الاقتصاد القوي الرائع في حالة تنامٍ شديدة في وقت لا تشهد فيه الأجور ارتفاعاً سريعاً بصورة لافتة.
من جهته، أشار زميلي كاتب الرأي لدى «بلومبرغ»، ستيفين غانديل، إلى أن ثروات غالبية الأميركيين لم ترتفع خلال فترة الازدهار تلك. والملاحظ أن معظم الأميركيين من أبناء الطبقة الوسطى أبقوا ثرواتهم داخل منازلهم، بينما يميل الأثرياء لتوجيه مزيد من المال إلى سوق الأسهم. وقد شهدت سوق الأسهم الجزء الأكبر من الأرباح منذ دخول الرئيس دونالد ترمب البيت الأبيض.
حتى مجال العقارات لا يحقق أداءً جيداً بالنسبة للأميركيين العاديين هذه الأيام، مع تحويل معايير الإقراض الأكثر تشدداً الثروة العقارية من الطبقة الوسطى إلى طبقة الأثرياء.
وكان ذلك تحديداً ما حدث في الفترة الأخيرة. فعلى المدى الطويل، عانى أميركيون من تراجع مستمر في الحراك الاقتصادي. وحالياً، بمقدور فقط ما يقرب من نصف البالغين 30 عاماً جني قدر أكبر من المال عن والديهم في المرحلة العمرية ذاتها.
ويبقى التساؤل هنا: كيف يمكن أن يكون الاقتصاد في حالة ازدهار بينما يتحسس الأميركيون العاديون طريقهم بصعوبة؟ تتعلق الإجابة بأسلوب نظر الخبراء الاقتصاديين إلى الاقتصاد بوجه عام. في مختلف النماذج التي يضعها الخبراء، يجري تقسيم الأداء الاقتصادي إلى عنصرين مختلفين للغاية: كلي وجزئي. وقد انتقل هذا التقسيم إلى اللغة العامة، الأمر الذي يثير حالة من البلبلة من حين لآخر.
بوجه عام ومبسط، تسير القصة التي يرويها الخبراء الاقتصاديون على النحو التالي: على المدى الطويل، يتحدد الرخاء الاقتصادي تبعاً لمسيرة التقدم التكنولوجي، ومستوى جودة المؤسسات البشرية. ويجتمع الاثنان لدفع نمو الإنتاجية، الذي يقيس حجم الناتج الذي يمكن للاقتصاد إنتاجه مقابل مجموعة محددة من المدخلات. كما أنه يحدد كيف يجري توزيع ما ينتجه الاقتصاد ـ بإمكان التكنولوجيا مكافأة بعض المهارات، والتقليل من قيمة أخرى، في الوقت الذي يمكن فيه للحكومة إعادة توزيع الثروة، وتمييز مهن بعينها عن أخرى.
ويتعامل كثير من المجالات الفرعية من علم الاقتصاد مع تفاصيل دقيقة لأمور من المعتقد أنها تؤثر على الإنتاجية، مثل الضرائب والسلع العامة والتنمية الاقتصادية والتعليم والصحة وجهود البحث والتطوير والأسواق المالية، وما إلى ذلك. وعلى نحو متزايد، يجري تجميع هذه المجالات معاً، التي تشكل غالبية ما يدرسه خبراء الاقتصاد تحت اسم «الاقتصاد الجزئي».
ويعتقد خبراء اقتصاديون أنه على المدى القصير يمكن أن تسبب دورة الأعمال تقلبات حول التوجه طويل الأمد. عندما تقع أزمة مالية، تؤدي السياسات النقدية الصارمة، أو بعض الصدمات الأخرى، إلى تراجع في إجمالي الطلب على السلع والخدمات. ويتسبب الركود الناجم عن ذلك في حدوث حالة من عدم التوافق أو التباين، فتصبح المكاتب والمصانع خالية، بينما يبقى العمال الذين بمقدورهم ملء هذه المكاتب والمصانع في منازلهم يلعبون ألعاب الفيديو. ومع أن هذا التراجع لا يستمر إلى الأبد، فإنه في أكثر المواقف تطرفاً يمكن أن يستمر لفترة تصل إلى عقد. ويدعى فرع علم الاقتصاد الذي يتناول هذه الظاهرة المؤقتة «الاقتصاد الكلي».
ومنذ «الكساد الكبير»، اعتاد خبراء الاقتصاد على الإشارة إلى الظروف المرتبطة بالاقتصاد الكلي باسم «الاقتصاد». وتهيمن موجات الركود والازدهار على المناقشات العامة. وعندما يجري توظيف حصة كبيرة من القوة العاملة، يقول الناس إن «الاقتصاد» بحالة جيدة، حتى لو كانت الإنتاجية منخفضة، والحراك الاقتصادي متجمداً، والتفاوت في تنامٍ.
الملاحظ في الوقت الحالي أن سوق الوظائف بلغت درجة من القوة جعلت حتى الأفراد المعتمدين على الإعانة الاجتماعية الخاصة بالإعاقة يعاودون الانضمام إلى سوق العمل.
ومع هذا، يبقى تأثير هذا النمو في سوق الوظائف نسبياً فيما يتعلق بتوجه الإنتاجية على المدى الطويل، الذي يبدو مثيراً للتشاؤم على نحو متزايد.
وربما يمثل جمود الإنتاجية أحد الأسباب وراء الارتفاع شديد البطء في الأجور. أيضاً، يعني تراجع الإنتاجية أن مقداراً أقل من الثروة متاح أمام الحكومة لإعادة توزيعه.
بمعنى آخر، فإن خبراء الاقتصاد والمعلقين يصفون الاقتصاد بـ«الرائع» لأن هذا ما اعتادوا فعله، بينما هم يقصدون فحسب أن معظم الأشخاص يملكون وظائف. ويتجاهل هذا الاستخدام للمصطلحات حجم الأجور التي تقدمها هذه الوظائف، أو أياً من طبقات المجتمع تجني الثمار.
وبطبيعة الحال، ليس هناك انفصال كامل بين الاقتصاد الكلي والجزئي، وإنما عادة ما يؤدي ازدهار الاقتصاد الكلي لفترة طويلة إلى دفع الأجور نحو الارتفاع، بل وباستطاعته تعزيز الإنتاجية، نظراً لأنه يدفع الشركات نحو الاستثمار في أحدث التقنيات. وعليه، فإنه من الجيد الإبقاء على مجمل الطلب قوياً، عبر تجنب تقييد السياسات النقدية والمالية على نحو لا تستدعيه الضرورة.
ومع هذا، فإن الاقتصاد الكلي الجيد ليس بالأمر الكافي، وإنما من الضروري تناول التوجهات طويلة الأمد، المتمثلة في انخفاض الإنتاجية وتفاقم التفاوت. وتنطوي سياسات الاقتصاد الكلي على صعوبة أكبر بكثير عن الأخرى المتعلقة بالاقتصاد الجزئي، نظراً لأنها تتطلب التعمق في قلب المؤسسات والصناعات، وإصلاح ملايين التفاصيل الصغيرة، مثل التنظيمات والبنية التحتية والأبحاث والضرائب والتعليم والسياسات الجارية. ونادراً ما تتوافر حلول كبرى سريعة وبسيطة. ومع هذا، يبقى من الضروري الاضطلاع بهذه المهمة، وإلا سيدرك الأميركيون نهاية الأمر أن الاقتصاد «الرائع» ليس بتلك الروعة على أرض الواقع.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»