د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

رحلة إلى أفغانستان... حوارات ومشاهدات

رغم المخاطر والتفجيرات، هناك من يُصر على صياغة المستقبل بروح علمية وتصورات منهجية. تلك حالة «حوار هيرات الأمني» الذي ينظمه معهد أفغانستان للدراسات الاستراتيجية للعام السابع على التوالي، ويشارك فيه 60 خبيراً وباحثاً ومسؤولاً من 17 دولة. ويركز المعهد في مؤتمراته على كيف تخرج البلاد من أزماتها؟ وكيف السبيل إلى السلام؟ وما الذي يمكن أن يقدمه الجيران بصدق وصولا إلى ذلك الأمل المشروع؟
نعم أفغانستان بلد يُصنف خطراً، لكن هؤلاء الذين قرروا الاستجابة لكي يناقشوا مستقبل أفغانستان رأوا أن عليهم دورا مهما، على الأقل رفع معنويات بلد غارق في العنف والحروب منذ العام 1979 وحتى الآن. فاقتلاع «طالبان» من الحكم منذ ديسمبر (كانون الأول) 2001 بعد التدخل العسكري الأميركي، لا يعني أنها ذابت في جبال وأودية أفغانستان القاسية. فرغم كل الضربات لا تزال الحركة قادرة على الإيذاء الشديد للمواطنين الأبرياء، وقادرة على فرض وجودها في أماكن كثيرة وفرض قوانينها ورؤيتها الخاصة لتطبيق الشريعة. التقديرات المتداولة أن «طالبان» تسيطر على ما يقرب من 70 في المائة من مساحة أفغانستان. وهو ما كان مجالا للتحفظ من قبل بعض الأفغان أنفسهم، إذ ينزلون بالنسبة إلى ما يقرب من نصف مساحة البلاد وحسب. وكلا الرقمين مخيف.
والمثير هنا أن أفغانيا شغل منصبا رفيعا في حكومة «طالبان» حين كانت تحكم «إمارة أفغانستان الإسلامية»، ثم انشق عنها في مرحلة لاحقة، ويتحرك بحرية في المناطق والمدن التي تسيطر عليها الحكومة الشرعية، طرح رؤية بسيطة للغاية لماهية الصراع الدائر في البلاد، ومركزها أن سبب البلاء هو الاستعمار الجديد الذي تمثله الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها، وللخروج من المأزق فلا مجال سوى خروج هذه القوات فورا وترك الأفغان يحلون مشكلاتهم بأيديهم. وحين تطرح عليه أن «طالبان» ترفع السلاح غير الشرعي في مواجهة الناس جميعا، يجيب ببساطة: لكل منا قدره. وحين تقول له ماذا تريد «طالبان»؟ يقول: لا شيء سوى دستور جديد وحكم الشريعة. وإن لم يحدث الأمر على هذا النحو فما العمل، يقول: بصراحة إن الوضع سيظل مشتعلا إلى أمد بعيد، ولن يهنأ أحد. ويضيف آخر: لقد هزمنا الروس والإنجليز من قبل، وسيحدث الأمر مع الأميركيين. إنها معركة مستمرة وبلا نهاية.
والشيء بالشيء يذكر، فمنذ صرح مسؤول روسي قبل شهرين أن مسلحين تابعين لـ«داعش» انتقلوا للعمل في أفغانستان بعد هزيمتهم في سوريا والعراق، يبدو الأمر وكأنه مقدمة لخلط الأوراق. وهنا لفت أحد الحاضرين الأنظار إلى أن الحديث عن وجود «داعش» في البلاد يهدف إلى تعويم «طالبان» أفغانيا، ففي أي مقارنة عابرة قد يرى البعض أن «طالبان» ستكون أكثر رحمة من «داعش»، وفي هذا خطر كبير، لأنه استنتاج خاطئ جملة وتفصيلاً، فكلاهما يريد إقامة دولة بمفاهيم لا علاقة لها بالنظام الدولي أو المعاهدات أو القانون، بل فقط بتفسيره القاصر للإسلام من دون أدنى اعتبار للذين يختلفون معه في حكم البلاد.
«طالبان» أو «داعش» أو فساد الإدارة وتراجع التعليم ليست فقط المشكلات الرئيسة، هناك إنتاج المخدرات وتسويقها رغم كل الجهود التي تبذلها الحكومة بمساعدة مكتب الأمم المتحدة لمواجهة المخدرات. والمتداول أن «طالبان» تحصل على 400 مليون دولار من مزارعي الخشخاش كضرائب، ومسؤول رسمي في الداخلية الأفغانية رفع الرقم إلى ما يقرب من 800 مليون يُعاد ضخها في أعمال إرهابية. أما مجمل الإنتاج الأفغاني فيتجاوز 6 آلاف طن حسب تقديرات 2016 تدر مليارات الدولارات، ويُهرب معظمها إلى الصين والهند، والباقي يستهلك في الداخل.
ولاعتبارات أمنية بحتة، فإن السير في الشارع حتى في وسط كابل المؤمنة نسبيا، يُعد مغامرة. وحسب أحد المقيمين من المصريين، فإن الخوف ليس من التعرض لحادث إرهابي، بل الخوف من الخطف الموجه أساسا للأجانب، ولتقليل درجة الخطر نسبيا فلا مجال للحركة من دون سيارة مدرعة يقودها سائق أفغاني يجيد التصرف، وهؤلاء تديرهم مكاتب متخصصة ولها تصاريح خاصة من الجهات الأمنية.
وفي الشارع الأفغاني تلفت النظر الصور الكبيرة الحجم والمنتشرة على الأبنية وأعمدة الإنارة لأحمد شاه مسعود، ويسبق الاسم دائما كلمة «الشهيد» تقديرا لمكانته في فترة الجهاد لدى الأفغان. ومن اللافت أيضا أن هناك عدة حدائق عامة ترتادها الأسر للترويح عن أنفسها وأولادها، وكأن خطر التفجير الانتحاري الذي يمكن أن يحدث في أي لحظة وفي أي مكان غير موجود. فيما يعكس الإصرار على ممارسة الحياة بطبيعتها وفطريتها. لكن «طالبان» لا ترى الأمر ولا يعنيها بقدر ما يعنيها أن تقتل وتفجر وحسب. كما لا يعنيها نظرة المواطنين الأفغان لها باعتبارها حركة تُسيرها من الخارج لتخرب البلاد. ومما يجذب العين رغم الازدحام الشديد وبطء حركة السير في شوارع قلب العاصمة كابل، تلك الشعارات الموجودة على جدران الكثير من المؤسسات العامة، وكلها تدور حول كراهية «طالبان» ووصفها بالعمالة والخيانة.
ورغم الحرب والتخلف الضارب في الأعماق، ثمة دوائر صغيرة ولكنها باهرة، فهناك نماذج من المرأة الأفغانية تفرض الاحترام والتقدير والدهشة أيضا. فإحدى مديرات جلسات الحوار الأمني كانت سيدة شابة تحمل الجنسية الكندية منذ فترة اللجوء في زمن سيطرة «طالبان» الأولى، ولديها شهادة عالية ومتخصصة في إدارة الأعمال، ولكنها قررت أن تترك الوضع الآمن في كندا لتعود إلى وطنها لتقدم ما يمكن تقديمه من أجل الأطفال والنساء والمساعدة على التمسك بالأمل. والأمثلة كثيرة، فيما يجسد ذلك تيارا جديدا في عمق المجتمع يجاهد من أجل التمدن والتعلم والحرية ومواجهة العنف بكل أشكاله. وكذلك بعض المسؤولين الحكوميين الشباب من ذوي الفكر المستنير والذين شاركوا في إدارة العملية الانتخابية وغالبيتهم نالوا تعليما رفيعا في الخارج، ولهم فرص كبيرة هناك، ولكنهم فضلوا خدمة وطنهم رغم ما فيه من مخاطر.
بعد انتهاء المؤتمر الذي دام يومين، والتجول السريع في بعض شوارع العاصمة، عدنا من أفغانستان بعد رحلة دامت أربع عشرة ساعة، وفي الصباح التالي كان الخبر الأبرز تفجير انتحاري بالقرب من أحد السجون جنوب العاصمة كابل خلّف قتلى، فحمدنا الله على سلامة العودة إلى الوطن. وزاد الألم لما يجري في هذا البلد.