ماجد العمري
كاتب ورجل أعمال
TT

الاقتصاد السعودي والزهور الهولندية

يحكى أن كونفوشيوس التقى بزعيم إحدى المناطق الريفية الصينية مع مجموعة من أصحابه فسألهم: «كيف هي زراعتكم وكيف تبنون بيوتكم؟»، فقالوا: «توقفنا عن الزراعة، لأننا نشتري ما نحتاج إليه من البلدة المجاورة، وكذلك مساكننا يبنيها عمالهم». فقال لهم: «الذهب نعمة تذهب عوائدها لغيركم، فبدل أن تطوروا بها مزارعكم وإنتاجكم، أصبحتم تأكلون من إنتاج الآخرين.. وهو حتما سينتهي!».
تقول دراسة نشرتها مؤسسة «swf institute» قبل فترة تقول إن السعودية تمتلك ثاني أكبر صندوق سيادي في العالم بعد هولندا بإجمالي موجودات 675 مليار دولار، وهو الصندوق الذي تديره مؤسسة النقد «ساما» والذي يجري استثماره بشكل أساسي في سندات خزينة لا تنفع الاقتصاد السعودي كزهور هولندا وصناعتها واقتصادها المنتج على الرغم من قرب المراكز بين البلدين.
في الاقتصاد ما يسمى بـ«المرض الهولندي» الذي يصيب اقتصادات الدول والذي سبق أن أصيبت به إسبانيا وأستراليا وهولندا التي طالها المرض عام 1900م بعد اكتشاف النفط آنذاك، ومن أعراض هذا المرض الاقتصادي اعتماد المجتمع على الأيدي العاملة المستوردة وارتفاع أسعار السلع والمنتجات الغذائية، مع ضعف لتنافسية السلع الوطنية وانخفاض في السلع الخارجية، التي تشبه كثيرا ما يحدث الآن في جوانب كثيرة من الاقتصاد السعودي والحياة الاجتماعية التي أصابها بعض الكسل وثقافة الاستهلاك، تماما كما حدث في هولندا التي لم تصحُ منها إلا بعد نضوب النفط عام 1950!
والسؤال الآن: هل سننتظر حتى ينضب نفط السعودية لنعالج هذا المرض، أم سنتعلم من المناهج الاقتصادية الحديثة لجارات هولندا من الدول ذات الاقتصادات المنتجة والمتنوعة المصادر (بغض النظر عن أزمتهم الاقتصادية الحالية، فهي عابرة ولديهم بنية تحتية قوية لم نصل إليها رغم إنفاقنا مئات المليارات على البنية التحتية)؟
ولنا في التاريخ أيضا قصة البقرات السبع في قصة يوسف عليه السلام مع الملك في الآية الكريمة: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ»، وكان الحل حينها بالاقتصاد المنتج وفي الادخار بالمشاريع وليس بالسندات والسيولة التي لا تصنع اقتصادا قويا.
المؤلم أنه لدينا تجربة محلية عظيمة في المدن الصناعية وهي «الجبيل وينبع»، إضافة إلى صندوق التنمية الصناعية، هذه المشاريع العملاقة التي نفذت قبل عشرات السنين، زمن الطفرة الأولى، ولا تزال داعمة وصامدة، بأمثالها يُصنع اقتصاد قوي، فلماذا لا نكرر هذه التجربة المحلية ونحن نعيش الطفرة الثانية ولا نعلم هل ستكون هنالك طفرة ثالثة أم لا؟!
الفرصة بأيدينا الآن لإنشاء مدن صناعية أخرى في مجالات تنافسية كالتمور، وفي مجالات ذات طلب محلي وإقليمي كالسيارات والمعدات ومواد البناء، بالإضافة إلى مدن التقنية التي يمكن أن تنهي البطالة في المملكة، كما يمكن أن تحدث هجرة عكسية، وتحل كثيرا من المشكلات التنموية الأخرى كالزحام في المدن وأزمة العمالة وغير ذلك مما هو في المرض الهولندي القديم، والتي يمكن حلها بالاقتصاد الإنتاجي المتنوع.
لـ«الإيكونومست» في عددها الأخير مقالة تتحدث عن «لعنة الرخاء»، وفي اعتقادي أننا قادرون على جعلها منحة عظيمة تصنع نفطا دائما، وأعظم وسيلة لذلك هي باستغلال طاقات الإنسان، فهو النفط الذي لا ينضب، وفي كتابه «نحو العالم الأول» يقول لي كوان يو: «إن سنغافورة فقيرة في مواردها الطبيعية ولكنها استثمرت في التعليم في الإنسان الذي يمثل أعظم ثروة على الأرض».