فاي فلام
TT

اللوغاريتمات وجرأة الاستشكاف

مع التقدم الذي تحرزه اللوغاريتمات والذكاء الصناعي في العلوم، لا تتوقع للآلات والروبوتات أن تحل محل الباحثين من البشر، ولكن من شأن الذكاء الصناعي أن يوجه خطى العلماء ووكلاء التمويل العلمي نحو المجالات الواعدة غير المستكشفة سابقا.
هناك مجال كبير من العمل والتحسين في الأسلوب الذي يختار به البشر طرح الأسئلة العلمية، وفقا لما قاله جيمس إيفانز أستاذ علم الاجتماع، الذي اقترح استخدام اللوغاريتمات في توجيه القسم الخاص من مجلة «العلوم» الذي يحمل اسم «نحو علم أكثر علمية».
وفي عالم ينعم بالمثالية، سوف يعمل العلم بوصفه وسيلة من وسائل البحث الفعالة، مع الباحثين الذين يبحثون في الاتجاهات كافة، والقليل منهم يعملون على استكشاف المجالات غير المحتملة من قبل، والجميع يرفع تقاريره بعد ذلك - حتى في المجالات التي لم يتحقق فيها أي إنجاز يُذكر - وذلك بهدف تجنب التكرار من دون طائل. والبروفسور إيفانز، الذي يعمل في جامعة شيكاغو، قد فحص الأسلوب غير المثالي الذي يعمل وفقا له العلم الحقيقي، وخلص إلى أن هناك كثيرا من الإطناب غير المجدي والتكتل غير الفعال للجهود البحثية. فلماذا لا نحاول تجربة اللوغاريتمات التي توجه العلماء إلى المجالات العلمية الثرية المحتملة؟
وظهرت فكرته، في الأسبوع نفسه، على صفحات مجلة «العلوم»، إذ أشارت ورقة بحثية في «بلوس بيولوجي» إلى أن علماء الجينات الوراثية يجمعون جميع جهودهم للتركيز على 10 في المائة فحسب من الجينات البشرية التي يبلغ عددها نحو 20 ألف جين، ولقد تعرضت الاستكشافات الموسعة للتثبيط المحبط جراء القيود المهنية والتمويلية المفروضة. وقال المؤلف الرئيسي للورقة البحثية، عالم أحياء الأنظمة توماس ستوغر من جامعة نورث ويسترن، إن بعض الجينات التي خضعت للدراسة على نطاق واسع هي من الجينات الشهيرة لسبب وجيه مثل الرابطة المعروفة بمرض السرطان أو غيره من الأمراض الأخرى. غير أن الاهتمام المطلوب لا يزال ينقصه التناسب، كما يقول، مع اجتذاب الجينات الشهيرة انتباه واهتمام الآخرين بمقدار 4 آلاف مرة، ونحو 27 في المائة من الجينات الأخرى تبقى من دون دراسة أو اهتمام.
وبعض من التحيز الواضح يرجع إلى جذور تاريخية، كما قال البروفسور ستوغر. فإن الجينات الحائزة جُل الاهتمام في عام 2018 هي نفسها الجينات التي كانت معروفة قبل مشروع الجينوم البشري الذي عمل على تحديد مجموعة كاملة من الجينات البشرية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكانت هذه الجينات المعروفة من أسهل الجينات من حيث الدراسة لأسباب مختلفة: كان من السهل صناعة ودراسة البروتين الذي يحمل الشفرات الوراثية، على سبيل المثال، أو أنها أتاحت الفرصة بذاتها للدراسة في ذباب الفاكهة وغير ذلك من الحيوانات النموذجية الأخرى.
وقال البروفسور ستوغر إن صغار العلماء الذين يتجهون لدراسة الجزء المجهول من الجينوم البشري هم أقل عرضة بنسبة 50 في المائة فقط للنجاح في أن يصبحوا باحثين مستقلين. إذ يستغرق الأمر كثيرا من الوقت للوصول إلى السرعة المطلوبة في الأبحاث في المجالات الجديدة. فلا بد من تصميم أدوات جديدة، مثل العثور على الحيوانات المحورة جينيا، حتى يتسنى مواصلة البحث والمعرفة. ويميل وكلاء التمويل العلمي إلى الابتعاد عن المشروعات البحثية طويلة الأجل والمحفوفة بالمزيد من المخاطر.
والجينات البشرية تختلف اختلافا طفيفا عن كثير من المجالات العلمية الأخرى، لأن مشروع الجينوم البشري جعل من الجزء غير المستكشف من الجينوم بمثابة «المجهول المعلوم». وقال البروفسور إيفانز، الذي اقترح استخدام اللوغاريتمات الأصلية، إنه من الصعب جعل وكلاء التمويل العلمي يدركون أهمية الاستثمار في الأمور الأقل احتمالا لإحراز النجاح. وقال أيضا إن الرد على ذلك يكمن في اتباع منهج أشبه بالرأسمالية المغامرة، مع الاعتراف بأن بعض المشروعات الأقل احتمالا للنجاح قد ترجع بالنتائج الكبيرة للغاية.
وعلى سبيل المثال، في علم الطب البيولوجي، فقد تمكن برفقة زملائه من استخدام اللوغاريتمات في توقع 96 في المائة من الموضوعات البحثية العلمية لسنة معينة من واقع الأبحاث المنشورة سالفا. وليس من المستغرب أن تكون الأوراق البحثية ذات التأثير العلمي الكبير كانت بين الأقلية الصغيرة التي لم تشملها التوقعات.
ويقول البروفسور إيفانز إن العلماء يتجمعون للبحث في المجالات والتخصصات العلمية ذات المشكلات والأساليب التقليدية الراسخة في الحل. والتخصصات العلمية ضرورية للغاية، ولكنها مثل أي شيء جيد فهناك على الدوام نتائج هامشية متناقصة. وبعد فترة من الزمن، فإن هذه المجالات العلمية المكتظة سوف تتحول إلى ما يشبه المنجم الذي قُتل بحثا وحفرا وتنقيبا.
كما أن اكتظاظ إحدى المجالات العلمية يفضي أيضا إلى مشكلة النتائج غير الموثوق بها، كما قال البروفسور، وذلك لأن تكتلات مختلفة من العلماء تستخدم الأساليب العلمية المتبعة نفسها. الأمر الذي يعني أن محاولات تكرار الاكتشاف لا تنعم بالاستقلال الحقيقي.
والأسوأ من ذلك، أن العلماء لا يتمكنون في أغلب الأحيان من إقناع الصحف بنشر النتائج السلبية، وهي النتائج التي تشير إلى عدم وجود التأثير النفسي المنتظر، مثل النظام الغذائي الذي لا يساعد الناس على فقدان الوزن، أو الدواء الذي لا يساهم في علاج مرض بعينه. وبالتالي، فإن هناك علماء آخرين مضطرين لإجراء التجارب نفسها مرة أخرى، وإن ارتكبوا أخطاء وتوصلوا إلى نتيجة إيجابية، فإن ذلك ما يمكن ظهوره في الأدبيات المنشورة صحافيا.
والأصالة لا تتعلق بما يربطه الناس باللوغاريتمات، ولكن استخدامها قد يساعد في العثور على وكلاء التمويل العلمي والناس الذين يحصلون على الأموال منهم. ويتفق ذلك مع نمط التفكير أن الأتمتة، واللوغاريتمات، والذكاء الصناعي لن تحل محل البشر بقدر ما يحل التغيير محل الأسلوب المتفق عليه في أعمالنا. ويصف البروفسور إيفانز المجهولات في العلم بالبحر غير محدد المعالم، مع كثير من التساؤلات غير المثمرة والكامنة في ذلك البحر كمثل الجبال الجليدية الغادرة.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»