شارلز ليستر
- زميل ومدير قسم مكافحة الإرهاب بمعهد الشرق الأوسط
TT

لا بد من جدار منيع في سوريا لاحتواء إيران

أدّت الحرب في سوريا إلى تحويل جماعة «حزب الله» إلى عنصر عسكري في تنفيذ العمليات. فعلياً؛ يسيطر «حزب الله» على الدولة اللبنانية، ويعمل بمثابة رأس الرمح الإقليمي الإيراني، وذلك في إطار ما يمكن وصفها بأنها «إمبراطورية ظل إيرانية» أقوى بوضوح مما كانت عليه الحال قبل عام 2011.
وفي الوقت الذي تتركز فيه الأنظار الدولية على نشاطات إيران و«حزب الله» في الوقت الحالي، فإن الغموض لا يزال يكتنف تداعيات اتخاذ إجراءات جديدة ضدهما مثل عقوبات اقتصادية قاسية أو محاولات لفرض العزلة على إيران.
في الواقع، تحمل مثل هذه الإجراءات الجديدة في طياتها مخاطرة تقوية شوكة الفرق الأكثر شراً داخل إيران. وبذلك يتضح أن ثمة تحدياً صعباً وخطيراً قائماً اليوم بالمنطقة.
وبعد أكثر من 7 سنوات من الحرب في سوريا، تمكن «حزب الله» من تطوير نفسه ليصبح قوة عسكرية محترفة تتألف من 20 ألف مقاتل نشطين، إضافة إلى عشرات الآلاف من المقاتلين الاحتياط. ومنذ عام 2013، أصبحت لدى «حزب الله» دورة دائمة يتراوح قوامها بين 5 آلاف و7 آلاف فرد عسكري نشط يجري نشرهم في سوريا، وفي وقت قريب نشرت الجماعة عناصر آخرين في اليمن والعراق يضطلعون بمهام تدريب وتقديم مشورة وأدوار أخرى مساعدة.
والواضح أن الحقبة التي كان يعمل خلالها «حزب الله» بصفته جماعة إرهابية تخوض صراعات غير متكافئة، قد أصبحت في حكم الماضي. اليوم، تبدو الجماعة اللبنانية التي تعمل بالوكالة أشبه بقوة عسكرية تقليدية، وتضم في صفوفها فرق مدرعات ووحدات مدفعية وقوات برية ووحدات ألغام وطائرات من دون طيار ووحدات حروب إلكترونية وسايبرية وأنظمة أسلحة بدائية، مثل العبوات الخارقة، وذخائر صاروخية، بل وربما أسلحة كيماوية بدائية.
وتقدر تقارير القوة الصاروخية لدى «حزب الله» بـ130 ألف صاروخ على الأقل، بينها أنظمة إيرانية حديثة مثل «فاتح110» و«ذو الفقار»، المزودة بتكنولوجيا توجيه فاعلة. وتعد هذه الترسانة أكبر بمقدار 4 أضعاف على الأقل من الـ30 ألف صاروخ التي كان يمتلكها «حزب الله» قبل حرب عام 2006.
وخلال هذا الصراع الذي اشتعل منذ 12 عاماً، أطلق «حزب الله» في المتوسط 100 قذيفة على إسرائيل يومياً. أما اليوم، فقد يكون «حزب الله» قادراً على إطلاق 1200 قذيفة على الأقل يومياً، وبدقة أكبر. وبذلك يتضح أن الجماعة اللبنانية أصبحت تشكل خطراً فورياً على إسرائيل، لكن هذا لا ينفي أنها تمثل كذلك خطراً على أمن منطقة الشرق الأوسط ككل.
قبل تفجر الحرب في سوريا عام 2011، حظي «حزب الله» بدعم نظراً لدوره في «المقاومة» أمام إسرائيل. إلا أن قرار الجماعة بالاضطلاع بدور محوري للغاية في الأزمة السورية أدى لإحداث تحول في هويتها لتصبح قوة طائفية على نحو صريح، وتورطت في جرائم استثنائية ووحشية ضد الأغلبية في سوريا. ويكاد يكون في حكم المستحيل أن يتمكن «حزب الله» من التغلب على هذا التحول في الهوية والعودة إلى سابق صورته. وعليه، فإنه من دون مواجهته تحدياً شاملاً - أمر يبدو غير محتمل - فستظل القوة العسكرية غير المسبوقة لـ«حزب الله» من عناصر الواقع التي تعزز بدرجة بالغة قدرة طهران على استخدام نفوذها؛ السياسي والآيديولوجي، بأي مكان تختاره.
بالنسبة لإيران، تحمل سوريا أهمية جوهرية. ونظراً للمصالح الكبيرة التي تتهددها الأخطار، تحركت إيران ومن خلفها «حزب الله» للتدخل في سوريا بدرجة كبيرة عام 2011. وبالمثل، فإن هذه المصالح تفسر السبب وراء حقيقة أن أياً من الطرفين لن ينسحب من سوريا على امتداد المستقبل المنظور. ولن تفلح العقوبات المالية ولا العزلة الدبلوماسية ولا الضغوط السياسية في دفع إيران وعملائها للخروج من الأراضي السورية. المؤكد أن طهران حققت نصراً كبيراً للغاية لنفسها في سوريا يتعذر عليها اليوم التخلي عنه. أما الحكومة الوحيدة التي قد تتمتع ببعض النفوذ لإنجاز هذا الهدف - روسيا - فقد أوضحت مراراً أنها لا تملك السبل اللازمة لتحقيق ذلك.
الواضح أنه في ظل المناخ الدولي العام السائد اليوم، سواء في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط، ليس ثمة رغبة دولية في الدخول في مواجهة عسكرية كبرى مع إيران أو «حزب الله». علاوة على ذلك، فليس هناك مؤشر يوحي بأن فعل هذا سيضمن الفوز أو يحقق أي هدف بخلاف مزيد من التمكين لأجندة إيران التوسعية على المستوى الإقليمي.
وعليه، فإن الاستراتيجية الأمثل التي يتعين اتباعها اليوم تكمن في الاحتواء القوي، مع الاعتماد على سيطرة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة على 30 في المائة من الأراضي السورية و70 في المائة من الموارد النفطية السورية. والمؤكد أن إيران تنظر إلى وجود التحالف في شمال نهر الفرات على امتداد شرق وشمال شرقي سوريا، وكذلك في منطقة التنف في جنوب شرقي سوريا، بوصفه تحدياً كبيراً ومصدر تهديد لها.
يذكر أن الميليشيات المرتبطة بإيران تصطف اليوم على امتداد الضفة الجنوبية لنهر الفرات. وهناك خرائط توضح نقاط تمركز هذه الميليشيات وكثافة انتشارها الذي بلغ درجة جعلت من المتعذر رؤية النهر نفسه. علاوة على ذلك، يتعين على التحالف المناهض لتنظيم «داعش» العمل بعزيمة أكبر على إرساء دعائم الاستقرار في هذا الثلث من سوريا، وتوجيه أموال وموارد لهذا الجزء الفقير وخلق واقع اجتماعي وسياسي يتناقض على نحو صارخ مع الواقع القائم بالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
وأمام الدول العربية دور بالغ الأهمية عليها الاضطلاع به في إطار استراتيجية الاحتواء القوي تلك. ومن أجل ضمان جعل الوجود العسكري الأميركي القوي مستداماً، يطالب الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن يساهم الحلفاء الإقليميون، على الأقل مالياً ويفضل عسكرياً أيضاً، في إكمال وتدعيم الوجود العسكري الأميركي في سوريا. ومن شأن مشاركة قوى إقليمية إضفاء مصداقية واستدامة على المستوى المحلي لهذه الجهود لا تقدر بثمن، الأمر الذي سيعزز بدوره كفاءة جهود الاحتواء.
وثمة احتمال ضعيف للغاية بأن تفلح أنظمة الدفاع الجوي «إس300» التي قدمتها روسيا لسوريا منذ وقت قريب في ردع إسرائيل عن الاستمرار في توجيه ضربات جوية لشحنات الأسلحة الإيرانية المتجهة إلى داخل سوريا، بل لمح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أن هذه الضربات قد تتسع رقعتها اليوم لتمتد إلى العراق ولبنان، إذا تطلب الأمر.
وفي هذا الإطار، فإن مثل هذه الضربات، التي حققت على صعيد احتواء القوة المتنامية لإيران داخل سوريا أكثر من أي إجراء آخر من جانب دولة أخرى، ينبغي التعامل معها بوصفها جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية واسعة متعددة الأطراف لاحتواء إيران. وعندما تستهدف ضربات إسرائيلية أنظمة أسلحة إيرانية معقدة داخل سوريا، يتعين على الأطراف صاحبة المصلحة في احتواء إيران، الإسهام في تكوين جبهة دبلوماسية عامة ضد نشاطات طهران.
ويمكن أن تسعى دول شرق أوسطية أيضاً نحو تحقيق مستوى من التعاون المشروط مع الحكومة الروسية بخصوص عدد من القضايا المتعلقة بسوريا، مع السعي على نحو خاص لاجتذاب موسكو بعيداً عن تحالفها مع طهران. ورغم الأخطاء والجرائم الكثيرة والخطيرة التي اقترفتها في سوريا، فإنه يبدو أن لدى روسيا بالفعل رغبة في تحقيق الاستقرار بالبلاد، والتخلص من العناصر الأجنبية الخطيرة والمثيرة للجدل. وتتشارك في هذين الهدفين معظم دول المنطقة، ومن الممكن أن تعمل حكومات إقليمية على تعزيز هذه الأهداف بشرط أن تظهر روسيا تقدماً ملحوظاً في احتواء النفوذ الإيراني داخل سوريا وتمهد الطريق نحو سوريا خالية من النفوذ الإيراني.
وستسعى استراتيجية الاحتواء تلك نحو تأجيج التحديات القائمة حالياً أمام النشاطات الإقليمية لإيران و«حزب الله»، بما في ذلك العقوبات القوية السارية بالفعل.
ورغم إحراز الشبكة الإقليمية لإيران مكاسب في السنوات الأخيرة، فإنها تبقى عرضة للتأثر بالتحركات المضادة من قبل منافسيها. ومع هذا، تبقى مسألة إنزال هزيمة كاملة بإيران وشبكة الميليشيات التابعة لها صعبة، إضافة إلى أنه من غير المحتمل تحقيق انسحاب إيراني كامل من سوريا.
والآن قد تكون هذه فرصتنا الأخيرة لبناء جدار منيع أمام مزيد من المكاسب الإيرانية، وإلحاق الضعف بطهران وقدرتها على المضي قدماً في خضم مد نفوذها وتحويله إلى واقع سياسي ودبلوماسي.
* مدير برنامج مكافحة الإرهاب
في «مؤسسة الشرق الأوسط» بواشنطن