د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

إنّكم تقتلون الثقافة

هذه التهمة الخطيرة الموجهة بشكل مباشر وصريح، نطق بها لسان عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو في اجتماع ضم ممثلي وسائل الإعلام السمعية البصرية في العالم، فكانت صرخة مثقف مناضل في وجه أرباب وسائل الإعلام ومالكيها.
ونحن إذ نتذكر هذه الجملة الشهيرة التي أوردتها صحيفة «لوموند» الفرنسية آنذاك (سنة 1999) في الصفحة الأولى، ليس للحديث عن التقصير الإعلامي في الاهتمام بالثقافة، بل إننا نهدف إلى إثارة موقع الثقافة في الحكومات العربية، أي الثقافة كحقيبة وزارية.
ويبدو لي أن إثارة هذه المسألة على هذا النحو في الفضاء العربي الإسلامي تحديداً لها وجاهتها، وذلك لسببين اثنين؛ أوّلهما أن الأمة العربية ذات حضارة وثقافة عريقتين وقديمتين. وتعد الثقافة العربية من الثقافات الأم في تاريخ الحضارة الإنسانية. وهو عامل يفيد بتاريخية القيمة التي تمتاز بها الثقافة وبتوغل البعد الثقافي في البنية العربية، ومن ثمة لا يمكن تجاوزه ألبتة في قراءة الذات العربيّة.
من ناحية ثانية، فإن الملاحظ أن المجتمعات العربية تعرف من عقود أزمة ثقافية حقيقية تتمثل في معوقات التغيير الثقافي وصعوبات التكيف والتواصل مع الثقافات الأخرى، حيث إننا لم نعثر بعد على المنوال التوفيقي الذي نهتدي به إلى السبيل الذي يحقق لنا التجذر في ثقافتنا والانفتاح والاقتباس المنطلق المبدع المتحرر من المركبات ومن إسقاطات مكون من مكونات الثقافة وجعله سبب جمود وتصلب.
من هذا المنطلق، وبالنظر إلى هذين السببين أتصور أن النخب الثقافية في البلدان العربية اليوم يجب أن تناضل من أجل أن تصبح وزارة الثقافة وزارة سيادية مثلها مثل الداخلية والخارجية والدفاع... فهي كل الوزارات وأكثر منها. ولن نحرز تقدماً أو لنقل لن نمضي في نهج الإصلاح بخطى ثابتة إلا بتبني رؤية مركزية وعلوية للثقافة، خصوصاً أن كل المشاكل التي نعاني منها في الوقت الراهن لا تعالج إلا ثقافياً.
وكي نفهم المقصود بأن تكون وزارة الثقافة وزارة سيادية يمكن معاينة واقع هذه الوزارة من ناحية الميزانية والأداء والأهمية، فهي أقل الميزانيات مقارنة بالوزارات الأخرى وأداؤها لا يتجاوز المناسبات الثقافية والتشجيع الفتات على الإبداع والإيهام بوجود حركة ثقافية. ولا نظن أننا بصدد تبخيس حق المجهودات المبذولة، وندعو للتأكد من صدقية التشخيص إلى النظر في واقع الكتاب نشراً وتوزيعاً وحال الموسيقى والأزمات الخانقة التي تمر بها السينما والمسرح رغم سطوة هذين الحقلين الفنيين وقوتهما الجماهيرية في الاستقطاب والاستثمار في التأثير الثقافي.
لذلك أعتقد أن الصرخة التي أطلقها عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في سياق آخر تنطبق علينا اليوم بالتمام والكمال، فنحن فعلاً بصدد قتل الثقافة عندما نحصرها في الهامش وفيما هو ثانوي، والحال أنّها غير موظفة في حربنا المتقطعة غير الجدية ضد التخلف والتقهقر.
لدينا عقود ونحن نتابع مجهودات ثقافية هنا وهناك، كبيرة ومهمة ولكنها تسبح ضد التيار وحدها دون دعم حقيقي وإرادة حاسمة. لذلك فإنه قبل الحديث عن دور النخب والمفكرين والمبدعين لنناضل من أجل سيادة الثقافة أولاً حتى نُعبّد لها الطريق يسيرة من أجل التأثير الفعال. ولتكن هذه السيادة مُفعلة وليست شعاراً. ففي هذا السياق ننزل دعوتنا إلى اعتماد حقيبة الوزارة في حكوماتنا وزارة سيادية.
من يمكنه تبني مثل هذا المطلب ويمتلك الهياكل والآليات اللازمة له؟
ببساطة شديدة إنّها منظمة الألكسو. فهذه المنظمة تعقد اجتماعات سنوية مع وزراء الثقافة العرب وتقدم مقترحات مهمة، وسبق لي شرف تقديم مقترح حول يوم عربي للشعر وتم تبنيه في اجتماع الوزراء في نهاية 2014 ويتم الاحتفال به سنوياً في عاصمة عربية ما.
إذن الصف التنفيذي الأول في منظمة الألكسو يمكنه الاشتغال على هذه الفكرة والنضال من خلال هياكله من أجل تحويلها إلى واقع وتكوين لجنة رفيعة المستوى ترسم مقاصد تسييد الثقافة وفوائد ذلك الرمزية والفعلية الواقعية. أي إعداد ورقة عملية تضبط الحد الأدنى لميزانية وزارة الثقافة وحجم سلطتها والوظائف المنوطة بها حتى تقوم بدورها وتتدخل في تحسين الواقع العربي بشكل فعال وحقيقي.
فمن الخطأ عدم استثمار الثقافة في معالجة مشاكلنا التي هي ثقافية في الجملة، ويجب أن يكون هذا الاستثمار ليس ظرفياً وعابراً فقط بل هيكلياً ومؤسساتياً، حتى ننعم بالوقاية والعلاج معاً.
وبخلاف ذلك فإن الجهود التي يبذلها المثقفون وأيضاً الإعلاميون المبدعون أمثال زاهي وهبي وبروين حبيب وأحمد الزين وجمال العرضاوي وعبد الحليم المسعودي وياسين عدنان في القنوات التلفزيونية، إضافة إلى الملاحق والصفحات الثقافية الدسمة التي يشرف عليها شعراء وأدباء كبار... سواء في برامج عالية الجودة أو مقالات غاية في الثراء والقيمة، ستظل محدودة التأثير ولا تتجاوز دائرة النخبة.
الثقافة ليست «بروش» تضعه سيدة أنيقة في فستان سهرة بل هي الخبر والفستان والجسد الذي يرتدي الفستان والبنطلون ورابطة العنق....