بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

هل جُنَّ العالم بالفعل؟

في حلقة البرنامج الإخباري «نيوز نايت»، على شاشة «بي بي سي»، مساء الجمعة الماضي، سألت إيميلي ميتيس، مقدمة الحلقة، ضيفتها الأميركية، التي كانت تتحدث من الضفة المقابلة للمحيط الأطلسي، ما مضمونه أنها تدرك أننا نعيش في عالم مجنون، ولكن السؤال هو: إلى أي مدى سوف يمسي العالم أكثر جنوناً؟ أعود لاحقاً إلى توضيح هوية الضيفة، وسبب حيرة المذيعة، الذي أدى بها إلى طرح تساؤلها. قبل ذلك، ليس من بأسٍ في استحضار حقيقة أن وصف العالم بالجنون ليس بخبر جديد. لو استطعتُ إحصاء عدد المرات، التي سمعت خلالها أحدهم يردد في مجلس ما هذا الوصف، أو قرأته ضمن مقال، أو تحليل، أو حوار صحافي، منذ وعيت القراءة ومتابعة ما يشهد العالم، ثم وضعت درهماً مقابل كل مرة، لربما توفرت لديَّ ثروة من دراهم لا بأس بها.
من الطبيعي أن كل امرئ سوف يرمي العالم بصفة الجنون انطلاقاً من مبادئ يعتنقها، أو قِيمٍ يؤمن بإخلاص أنها هي وحدها السلوك القويم، وأن ما عداها ضلالٌ مُبين، وإذ يحرص من جانبه على التمسك بها، ثم يُخَيل له أن كل ما يرى حوله ينبئ بانحراف واضح عنها، فسوف يسارع إلى الصياح أن العالم قد جُنَّ. يحدثني صديق من أترابي، أنه لم يزل يتذكر رد فعل والده إذ رأى بين يديه المذياع «الترانزستور» أول ما نزل إلى الأسواق مطالع ستينات القرن الماضي. ما أثار استهجان الأب هو أن راديو بحجم كف اليد، ويتسع له جيب المعطف، يستطيع أن يؤدي دور الجهاز الضخم المتربع في صدر الغرفة، والمُعتنى به أشد الاعتناء. زفر الوالد غير المُصدق ما ينظر، ضرب الكف بالكف، وأعلن بألم أن العالم جُنَّ، ومن ثَمّ ربما اقتربت النهاية.
مقاربة تلك الصورة من ستينات القرن السابق، مع ما قد يثير اندهاش بعض المجايلين لي، إزاء ما ينظرون حولهم، أو ما يشاهدون وما يسمعون عبر شاشات التلفزة، على نحو يجعل أحدهم ينتفض غاضباً، أو ضاحكاً، فيصف العالم بالجنون، تتوقف، مجدداً، على أي فريق ينتمي إليه المرء. المنتمون لمبدأ أن التطور جزء من ناموس الحياة، لن يصيبهم هاجس أن العالم أصيب بمس جنون لمجرد أن البشر يمكنهم التواصل عبر جوَّال بحجم كف اليد، فيسمعون الصوت وينظرون الصورة، حيثما هم وهن بمختلف بقاع الكوكب. في المقابل، ربما ليس من المبالغة القول إن ثمة مَنْ يتوهم أن مشاركة جراح متمكن من مشفاه، بأي مكان بالعالم، عبر أجهزة «الساتلايت»، في إجراء جراحة عاجلة لإنقاذ حياة مريض أو مريضة، بمستشفى يبعد عنه آلاف الأميال، هو من علامات اقتراب نهاية الحياة على الأرض.
إنما، إذا كان تفسير هكذا استهجان لدى بعض الذين هم في خريف العمر، يمكن رده إلى تجذّر، وبالتالي تمكن، الجينات الرافضة لأي تطور في الذهن، فما الذي يفسِّر مسارعة شبان وشابات، وُلِدوا وولدن، في زمن يُقال عنه إن ما من شيء يشهده بات يُدهش، إلى القول إن العالم جُنّ؟
الضيفة التي وجهت إليها المذيعة الناجحة إيميلي ميتيس، في حلقة «نيوزنايت»، تساؤلها عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه العالم في جنونه، كانت امرأة أميركية تُدعى ستورمي دانييل، صدر لها كتاب ضمنته تفاصيل غير لائقة بشأن واقعة تزعم أنها جرت بينها وبين الرئيس الأميركي دونالد ترمب قبل عشر سنين. عندما تتساءل إيميلي ميتيس، وهي من جيل زمن العالم الجديد، أنه عالم بات أكثر جنوناً مما يُحتمل، فلا بدّ أن هناك من الشواهد الكثيرة ما يرجح نظرتها تلك. في هذا السياق، ربما يصح القول إن المقصود بهكذا جنون هو انفلات أمور عدة من أي عقال يضبطها. يصلح الرئيس ترمب ذاته أن يُضرب به المثال في هذا الصدد، ذلك أن رئيس أكبر وأقوى وأهم قوة في العالم، ما كان يجب أن ينجر لمعارك مِن هذا القبيل، سواء مع تلك المرأة، أو أي من وسائل الإعلام في بلده. المنطق يقول إن سيد البيت الأبيض أكبر من هكذا أمور، والمُفترض ألا ينزل إلى مستواها، حتى لا يتساءل البعض، مندهشاً، هل أن العالم جُن بالفعل؟