فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

الصين المتسودنة تشق طريقها

انطلقت بعد الانفتاح المصري الاضطراري على الاتحاد السوفياتي بدءاً بصفقة السلاح المدفوع الثمن بتسهيلات وصولاً إلى بناء السد العالي بأقساط مقولة «الروس قادمون». وعزز القدوم المحتمل حدوثه انفتاح سوري وعراقي ويمني جنوبي على «رفاق الكرملين» ربطتْه القيادة السوفياتية بمعاهدات أثمرت سلاحاً يتم تسديد أثمانه بتسهيلات، وأثمرت في الوقت نفسه حساسيات، ولم تثمر تفهماً لواقع الحال لجهة الموقف الجدي من الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 5 يونيو (حزيران) 1967، الأمر الذي حمل الرئيس أنور السادات على أن يبرم مضطراً معاهدة مع الاتحاد السوفياتي ثم يلغيها وأن يتجه أميركياً باستدارة أقل قليلاً من النسبة المتعارف عليها للاستدارة وهي 180 درجة، ثم تثمر الاستدارة اختياراً ورهاناً من جانبه اتفاقية «كامب ديفيد» التي لم يشفع نصر 6 أكتوبر (تشرين الأول) غير المكتمل كما تمنى وتمنت معه شعوب الأمة له ذلك، وكانت واقعة المنصة الشهيرة التي تحل ذكراها السابعة والثلاثون بعد يومين.
لم يحقق الاستحضار الروسي السابق إلى مصر ودول المنطقة ما هو المأمول الحصول عليه لدول نامية من جانب دولة عظمى. ثم يأتي الاستحضار الثاني الحربي هذه المرة وليس فقط بالسلاح والخبراء وإنما بتحويل سوريا إلى أهم قاعدة لروسيا، بل يجوز القول إن الوجود العسكري الروسي براً وبحراً وجواً في مناطق كثيرة استراتيجية من سوريا بات نوعاً من الاستيطان. وما هو أهم من ذلك أن روسيا تجعل، أو لعلها حولت المسألة السورية إلى أنها ستكون الشرارة للحرب العالمية الثالثة، وهذا لأن الأمر وصل إلى معادلة تقوم على أنه إذا فقد بوتين سوريا لا يعود صاحب شأن دولي، وإذا واصل استيطانه العسكري لها فإنه بذلك سيحارب أميركا من خلال الإمساك بسوريا وإيران ورقة لا يملك غيرها وسيغامر في سبيل ألا تطير من يديه.
ما نريد قوله إن مقولة «الروس قادمون» طُرحت كمجرد تحليل وافتراض ثم انتهى الأمر على نحو ما هو حاصل في المشهد الهادئ نسبياً حالياً، لكن ألسنة اللهب في انتظار شرارة التحدي.
في المقابل، ترتسم في الأفق معالم حالة متجددة لقدوم مستجد ومرحب به. وعلى هذا الأساس يمكن القول مع بعض المعطيات «الصينيون قادمون». وكنموذج لقدرتهم هناك تجربتهم في السودان على مدى تسعٍ وخمسين سنة الذي أعطوه سلاحاً دون مقابل وتحت مبدأ ماو تسي تونغ «نحن لا نبيع السلاح كما يفعل السوفيات». وأمدوه في الوقت نفسه بمئات الأطباء وألوف الممتهنين العلاج بالوخز. ولطالما، بحكم تجوالي في مناطق من السودان وتحديداً في النصف الثاني من الستينات والنصف الأول من السبعينات، رأيت العيادات الصينية التي تعالج بالإبرة وأمامها عشرات السودانيين والسودانيات كباراً وصغاراً ينتظرون دورهم للعلاج... ومن دون مقابل بطبيعة الحال. ولأن سمعة هذا العلاج طيبة بدليل أن الأميرة ديانا كانت تخضع أحياناً لمثل هذا العلاج؛ فإن كبار المسؤولين السودانيين كانوا من رواد العيادات الصينية.
وحيث إن الصين تبغي صداقة مع الآخرين وتريد انتعاشاً في أسواق دول العالم الثالث لصناعاتها المعتدلة الثمن وتناسب بالذات الطبقة الوسطى وما دونها، فإنها بالنسبة إلى التجربة السودانية ركزت على أن يتعلم الصينيون اللغة العربية، وبذلك يدخل هؤلاء في النسيج المحلي، ولا يعود هنالك حذر منهم وحساسيات تجاههم كما حدث في مصر الحقبة الساداتية، وكما يحدث الآن في سوريا، مع ملاحظة أن حساسية المصريين كانت دائمة التداول بينما جحيم الدور الروسي الحربي يرجئ التعبير بالصوت العالي عن الحساسيات ويُكثر من التساؤلات عن هذا الدور الذي تمارسه في سوريا وتدفع بالبلد إلى أن يكون أرض حرب تأكل ما تبقَّى من الأخضر، وتدمي ما تبقَّى من الناس في المجهول.
اللافت للانتباه، أن صين الماضي بادئة العلاقة مع السودان يوم 4 يناير (كانون الثاني) 1959 في زمن حُكم الجنرالات يترأسهم كبيرهم إبراهيم عبود، تلتقي مع الصين المتسودنة ورئيسها الحالي شي جينبينغ من حيث أسلوب التعامل، مع إضافة لم تكن متوقعة منه تمثلت في إعفاء السودان من ديون أثقلت الكاهل ووصلت حتى ما قبل ثلاث سنوات إلى عشرة مليارات دولار. وهذا الإعفاء شمل دولاً في القارة الأفريقية عندما استضافت الصين يوم الاثنين 3 سبتمبر (أيلول) 2018 المنتدى السابع حول التعاون الصيني – الأفريقي الذي شارك فيه 53 رئيس دولة.
بعد الآن يبدو العائد من نفط السودان مجزياً؛ لأن الصين ستضاعف الاستثمار، وسيتسع هامش التعاون في مجالات رحبة من التطوير العمراني والزراعي ينشط الرئيس عمر البشير من أجل أن يتوج بها سنوات حكمه.
للاهتمام الصيني بالسودان دوافع كثيرة تجعل الرضا عن التعاون متبادلاً. واستحضر لهذه المناسبة كلاماً سبق أن قاله لي الرئيس الراحل جعفر نميري ويعكس ضيقاً منه بالسوفيات ورهانهم على الشيوعيين السودانيين، وارتياحاً إلى عدم تشاوف الصين على الآخرين من دول العالم الثالث كما حال هؤلاء مع الولايات المتحدة التي لم تتجاوب مع طلب عبد الناصر في بناء السد العالي فرد مضطراً بإبرام صفقة السلاح التشيكي بإيعاز من الكرملين طبعاً، والتي كانت بوابة دخول السوفيات إلى مصر وتحقيق حلم وضْع أقدامهم في مياه البحر المتوسط والبحر الأحمر.
ففي لقاء معه عقب زيارتيْن مثمرتيْن قام بهما إلى الصين، سألته ما الذي حصل عليه السودان من الصين لكي تتم هذه الإشادة النوعية منكم بها؟ قال «لم يعِدوا بشيء إلاّ ونفَّذوه، من السلاح بلا ثمن إلى تدريب أطفالنا على الأكروبات، إلى زراعة الأرز وشق الطرقات». لقد قال لي ماو تسي تونغ في زيارتي الأولى للصين «إننا مهتمون بالسودان لأن هنالك أوجُه تشابه بيننا وبينكم».
خلال ربع قرن آتٍ قد نرى جيلاً سودانياً باتت الصينية لغته الثانية، وأجيالاً صينية تتحدث العربية كما حال سفير الصين لدى لبنان وان كي جيان، الذي يتطلع إلى أن تكون العلاقة اللبنانية – الصينية بمثل العلاقة السودانية – الصينية وليست مثل العلاقة السورية – الروسية. ومن يدري، فالسودان في تركيبته قريب الشبه أيضاً في بعض خواصه ومنها الديمقراطية، بلبنان.