د. محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)
TT

العقلية الاستعلائية تقود استراتيجية طهران تجاه المنطقة

كثيرون تحدثوا عن حقيقة أن تعاطي إيران مع دول الخليج العربي تختلف جذرياً عن تعاطيها مع الدول الغربية، خصوصاً في أوقات الأزمات، وهناك من يتساءل لماذا هذه الازدواجية وما دوافعها وخلفياتها التاريخية؟ وهل هي سياسة محصورة في إيران ما بعد الثورة؟ أم أنها إرث من الأنظمة السابقة؟
لنستعرض بداية بعض النماذج التاريخية وكيف كانت إيران دائماً تخطئ في تعاطيها مع دول المنطقة، ثم تكتشف ذلك متأخراً فتعود بعد خسارة روح المبادرة في حسن النيات.
سوف يستعرض هذا المقال ذلك عبر أخذ نموذج العلاقات السعودية - الإيرانية خلال القرن العشرين والقرن الحالي، أي خلال العصر البهلوي وإيران ما بعد الثورة، فخلال العصر البهلوي لدينا نموذجان ومثلهما بعد الثورة.
ففي عام 1944، تم القبض على حاج إيراني في المطاف حول الكعبة يدعى أبا طالب يزدي، قيل إنه حاول تدنيس الكعبة المشرفة، وشهد عليه عدد من الحجاج من جنسيات مختلفة، فحكمت المحكمة السعودية بإعدامه، وتم تنفيذ ذلك في مكة أواخر موسم الحج في ساحة الصفا قرب الحرم المكي الشريف، وكان رد فعل طهران أنها خطوة متعجلة في قطع علاقاتها مع الرياض، رغم تأكيد السلطات السعودية وعلى رأسها الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن، أن الحكم جاء وفقاً للأدلة وشهود العيان، وأن الحكومة لا تستطيع التدخل في القضاء والأحكام الصادرة من المحاكم. بعد ذلك بثلاث سنوات، أدرك «البهلوي» الخطأ وأعاد العلاقات وأرسل وفداً كبيراً خلال موسم الحج من كل الدوائر الحكومية العليا، بما في ذلك ممثلون عن البلاط الملكي.
وثمة مثال آخر من العصر البهلوي حدث عام 1968، وبينما كان الاستعمار البريطاني يحزم حقائبه للانسحاب من منطقة الخليج، استقبل الملك فيصل بن عبد العزيز، الشيخ عيسى بن سلمان حاكم البحرين آنذاك، فعدّ محمد رضا بهلوي الخطوة السعودية بأنها رسالة سعودية لإيران بعروبة البحرين وعدم قبول النقاش حولها، وقد كانت هناك زيارة مجدولة للشاه إلى الرياض بعد اللقاء المشار إليه بيومين، فأعلنت إيران نتيجةً لذلك إلغاء الزيارة. يقول الباحث الإيراني الدكتور حميد أحمدي في كتابه حول العلاقات السعودية - الإيرانية، إنه عندما سئل الملك فيصل عن موقفه من الخطوة الإيرانية، قال إنَّ «القرار يعود لشاه إيران، وهو شاب وربما أخذه غرور الشباب، وقد يعيد النظر في هذا القرار». وبالفعل ما هي إلا بضعة أشهر حتى كان الشاه في زيارة إلى إثيوبيا، وقد طلب لقاء الملك فيصل في مطار جدة، وتحددت فترة اللقاء بأربعين دقيقة، لكنه استمر لست ساعات ووعد الشاه بزيارة خاصة للرياض، وتمت بعد ذلك بأقل من ستة أشهر.
أما بعد الثورة الإيرانية، فنورد حدثين مهمين أيضاً في فترتين مختلفتين:
الفترة الأولى: كانت في عهد مؤسس الجمهورية الخميني إبان الحرب العراقية - الإيرانية تحديداً في عام 1985، حينما قدمت السعودية مبادرة لوقف الحرب بين طهران وبغداد، ودعت إلى حقن الدماء بين الدولتين المسلمتين، إلا أن الخميني رفض المبادرة رفضاً قاطعاً، وأصر على استمرار الحرب حتى القضاء على نظام صدام حسين، وبعد سنتين فقط، رضخت إيران لوقف إطلاق النار بين الجانبين ووصف الخميني التوقيع على الاتفاقية بأنه يتجرع كأس السم.
المرحلة الثانية: في عهد المرشد الأعلى علي خامنئي، وهي مرحلة تاريخية مختلفة في ظروفها السياسية والإقليمية والدولية، وتحديداً في عام 2015 عند توقيع اتفاقية العمل المشتركة بين إيران ومجموعة «5+1»، إذ تجاهلت فيه إيران إلى جانب الدول الموقعة على الاتفاقية التحفظات الخليجية على ذلك الاتفاق، وبدت إيران غير آبهة بتحفظاتها، إذ اعتقدت طهران أن الاتفاق مع القوى الكبرى كافٍ، وأن دول الخليج لن تجد خياراً سوى التأييد الكامل له، وأنَّ عليها المسارعة لتحسين علاقتها مع النظام الإيراني. استمر الموقف الخليجي الرافض للسلوك العدائي الإيراني في المنطقة، وتحويل طهران للأموال التي حصلت عليها بعد الاتفاق إلى دعم وتأسيس الميليشيات بالمنطقة.
لكن ما هي إلا ثلاثة أعوام حتى شعرت طهران بحاجتها لهذه الدول خصوصاً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وفرض مزيد من الضغوطات والعقوبات الاقتصادية والسياسية على طهران.
في ظل هذه الظروف تذكر النظام الإيراني دول الخليج مجدداً، وأدرك أن الطريق إلى واشنطن وتخفيف الضغوطات لا بد أن يمر عبر العواصم الخليجية، خصوصاً الرياض وأبوظبي والمنامة، فأطلق الرئيس الإيراني ووزير خارجيته تصريحات تتودد لهذه العواصم وتدعو للحوار معها وفتح صفحة جديدة، غير أن الدول الخليجية الثلاث تُصرّ حتى اللحظة على موقفها الداعي إلى ضرورة أن يغير النظام الإيراني سلوكه في المنطقة قبل فتح أي قنوات للحوار أو التفاوض.
تقودنا الأمثلة السابقة إلى أن هناك إشكالية حقيقية في العقلية الإيرانية عند تعاطيها مع دول الخليج، وأن حسابات إيران في الغالب خاطئة في هذا الصدد، حتى إن تغير النظام السياسي الحاكم في طهران. إذن، أين يكمن الخلل؟ في نظري، يكمن في صورة العربي في العقلية الإيرانية، خصوصاً القيادية منها، وهذا واقع متوارث من عصور ما قبل الإسلام، وليس هذا المقال مجالاً لسرد الأدلة على ذلك. هناك نظرة دونية من قبل الشخصية الفارسية تجاه العرب، وهذه النظرة يتم توارثها والإصرار عليها كابراً عن كابر، حتى إن تغيرت الظروف، وأصبح واقع هذه الدول وخصوصاً الخليجية منها، متقدماً على الجانب الإيراني في كثير من الأصعدة، إلا أن الغرور القومي والنظرة الاستعلائية لم تتغير، وبالتالي نجد أن الجانب الإيراني مستسلم تماماً لذلك، وأصبحت استراتيجيته تجاه هذه الدول تدور حول إفرازات العقلية القومية المرتبطة بالماضي وشوائبه، وعليه تقع إيران في الأخطاء نفسها تارة بعد أخرى دون أن تتعلم منها.
لذا نقول للعقلاء في إيران: متى ما أرادت بلادكم الوصول إلى علاقات جيدة ومتوازنة ومنسجمة مع محيطها الإقليمي العربي، فيجب أن تعيد النظر في الزاوية التي تنظر من خلالها إلى دول المنطقة العربية والخليجية تحديداً، وإلا فإن هذا الواقع سيستمر لعصور مقبلة وستكرِّر طهران الأخطاء ذاتها دون أن تتعلم منها، وسوف يتجاوز العالم إيران، وهي حبيسة التاريخ الذي حتماً سيضرها ولن ينفعها.