د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

خطورة خطاب تبخيس الدنيا

إنّ كيفية تصورنا للأشياء محدد أساسي لعلاقتنا بها. ولعل الدنيا ليست بالشيء الهين أو البسيط حتى نهمل تصورنا لها، وهو الذي يصوغ تصورنا لكل شيء.
لنطرح سؤالنا بكل بساطة ومباشراتيّة: كيف ننظر للدنيا نحن المنتمين للثقافة العربية الإسلامية؟ طبعاً إثارة معطى الانتماء في هذا السياق لا غنى عنه باعتبار أن كيفية البناء الرمزي للدنيا والحياة هو أساساً نتاج البنية الثقافية، وخصوصاً الدين كمكون رئيسي من مكونات الثّقافة.
ولكن لماذا هذا السؤال؟ تبدو لي الإجابة بديهية جداً لأني أفترض أن ما نعرفه من تأزم وتوتر وارتباك ولخبطة وانفصام إنما يعود إلى تصورنا للحياة والدنيا. ذلك أن كيفية تصور الحياة يحدد موقعنا بها ودورنا ووظيفتنا فيها ومن ثم ما ننجزه فيها.
عندما نتعمق في الخطاب الذي يقدمه الدعاة اليوم في المنابر الإعلامية، وفي الفضاءات الدينية، وتحديداً فضاء المسجد، نجد أن المضمون المهيمن على هذا الخطاب هو تبخيس الدنيا والتقليل من شأنها: فهي ابتلاءات ولا شيء فيها يستحق التعلق أو الحزن من أجله. وهي ممر لا غير، وكلما كان حظنا من متاع الدنيا قليلاً أو معدوماً كانت الآخرة أفضل.
وفي الحقيقة هناك مشكلتان في هذا الخطاب؛ المشكلة الأولى أنه يُسوّق لفكرة ليست صحيحة، ويتعاطى مع النصوص الدينية المرجعية للدين الإسلامي بشكل انتقائي منزوع السياق، ذلك أن القرآن المرجع الأصلي للدين الإسلامي يزخر بمعاني طلب العلم والعمل والأخذ بنصيب من الدنيا. كما أن تجربة الدنيا امتحان لكفاءة الإنسان في الوجود، وإلى أي حد يمتلك العزيمة والقوة والإرادة، وقدرته على صنع الخير والجمال والمحبة والفرح. فالدين الإسلامي نهانا عن الحزن حتى في أعظم المصائب.
أما المشكلة الثانية الخطيرة جداً، فهي أن مثل هذا الخطاب يؤثر سلباً في الشباب العربي المسلم، ويشجعه على الانغلاق والاستسلام واستعداء الطموح في الحياة، والقطع مع الدنيا، مع ما يعنيه ذلك من كبت للذات البشرية وقمعها، الأمر الذي يجعلها بمثابة القنبلة الموقوتة. بل إن مثل هذا الخطاب الذي يتعسف على الإنسان، يستبطن مديحاً للفشل والتخلف والتقهقر في مجالات الحياة كافة، ويؤسس لقبول الهزائم ومؤشرات الضعف.
لذلك فنحن نتساءل أي فائدة يمكن أن نحققها اليوم في ظل مثل هذا الخطاب الذي يبخس الحياة، ويحقر من شأن الدنيا، ويحط من أهمية الحلم والطموح والسعي من أجل الأفضل والأحسن؟ إننا في حضرة خطاب يحاول تأصيل الطاقة السلبية اعتماداً على مستندات دينية، وتوظيف تأثيرها القوى في فئة عمرية تعتبر المحرك الاجتماعي والقلب النابض للتغيير الاجتماعي.
نعتقد أنّه هنا يكمن المأزق الحقيقي.
لقد ركزنا كثيراً على هوس الحركات «السلفية الجهادية» بالحكم، وتجاهلنا أن هذا الهوس لا شيء - من منطلق كونه قابلاً للمراقبة - مقارنة بالمشروع الثقافي لهذه الحركات... مشروع يهدف إلى إقصائنا من العالم، وأن نكون في آخر القائمات في مؤشرات النمو والتنمية والتقدم. ففي الوقت الذي نعيش فيه أزمات اقتصادية خانقة، ونعاني من البطالة في أقطار عربية كثيرة وتراجع مكاسب اجتماعية أساسيّة، نجد أن نبرة خطاب تبخيس الحياة تشتد وتعلو بشكل يؤكد قفز هؤلاء الدعاة على الواقع، وعدم صلتهم بهموم المجتمعات الإسلاميّة، وأيضاً استهانتهم بخطورة سوء توظيف بعض القيم مثل الزهد والقناعة وغير ذلك. فتاريخ الإسلام نفسه هو تاريخ طموح وما نشر الدعوة الإسلامية ليملأ الإسلام الأرض إلا دليل على أن ديننا واسع الآفاق وليس زاهداً.
كما أن تجاهل ما نص عليه الإسلام في خصوص العمل وطلب العلم وحصر الدنيا في الابتلاءات والصبر السلبي، أي الصبر دون عزم على تحسين الواقع وإسعاد ما حولنا، إنما يمثل نوعاً من التحريف الخطير للمقاصد.
من المهم جداً أن تنتبه بلداننا إلى خطورة هذا الخطاب في المساجد وفي وسائل الإعلام، فلا معنى لخوض مشاريع تنموية واعتماد برامج طموحة، وفي الوقت نفسه نفتح وسائل الإعلام، وتحديداً القنوات التلفزيونية لدعاة يهدمون البرامج والمشاريع من خلال الترويج لخطاب تبخيس الحياة وتحقيرها والقنوع بالقليل في كل شيء، فالأديان جاءت لتنظيم حيوات البشر لا لقتل الحياة، فالحياة فكرة إلهية والله خالقها.
من المهم أن نحب الحياة، ونشعر بالفرح فيها والجمال، وذلك بكل بساطة يقودنا إلى الله. فالله محبة وجمال ويسر ورحمة وطمأنينة وعلو الهمة. وما الابتلاءات إلا تجارب بالمعنى السوسيولوجي وظيفتها تعميق تجربة الإنسان في الحياة وجعله أقرب إلى المعاني الحقيقية وإلى الحقيقة.
نحتاج إلى خطاب يُعلي من شأن الدنيا، ويشحن شبابنا بحب العمل والطموح وحب الحياة وأخذها بقوة وجمال. وأغلب الظن أن هذه مسؤولية مؤسسات التنشئة الاجتماعية كافة، وعلى رأسها الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام.