فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

أثر السجالات في تفجر الفلسفات

لم يكن التطوّر العلمي بكل مراحله ومنعطفاته إلا نتيجة صراعٍ مع أسئلة، ومقارعة وجودٍ، ومساءلة أزمة. اختلافات بين الرومان واليونان والجرمان، وسواهم. تنوّعت اهتمامات المجموعات البشرية بين السياسة والقانون والفلسفة والهندسة إلى إدمان الحرب، ونظم الشعر. كل ذلك الحراك يترك وراءه أحافير من التطوّر، فالعلم بمجمله تاريخ اختلافات أو أثر «أخطاء» كما هي عبارة باشلار، ولكن مع تحوّلات المعرفة بعد النهضات والثورات والصراعات، وحين نضجت المجالات، وأصبح لكل مجالٍ تأسيسه وفلسفته ونظامه بات السجال والنقاش أساس تفجّر المذاهب والتيارات.
استفادت العلوم الإنسانية من ورش الصراعات السياسية والحزبية، وأثرت الحروب والثورات وتشظّياتها بإنتاج مذاهب متفرّعة متجاوزة، وإذا خصصنا الحديث عن الفلسفة فإن الواقع له أثره في تثوير التيارات المتضاربة، وشهد تاريخها صراعاتٍ مريرة وصلت حد العته بالهجوم الشخصي المتبادل بين فلاسفة كبار؛ مثل خلاف شبنهور وهيغل، والأخير المسؤول عن لجنة الامتحان خلفاً لفيخته، واختلفا بشكلٍ عنيف حتى وصف شبنهور هيغل بـ«المشعوذ» وبأوصاف أخرى تنظر بمقدمة كتاب «نقد الفلسفة الكانطية» لشبنهور بمقدمة حميد لشهب.
ساحات النقاش بكل أشكالها تسهم حتى من دون ترتيب في إنتاجٍ مختلف، وحين تخاصم طويلاً دريدا وهابرماس لم يلتقيا إلا بعد لأي، وأثمر اللقاء عن كتابٍ مشترك حول «الفلسفة والإرهاب» بمبادرة من الباحثة جيوفانا بورادوري.
بوجهٍ آخر حدثت تعاونات مشتركة بكتابة نصٍ واحد، كالذي قام به جيل دلوز اشتراكاً مع فليكس غيتاري بـ«ما هي الفلسفة»، تقاسما المهمة؛ الأول لرسم مفهومٍ آخر عن الفلسفة وتعريفٍ جديد «إنها إبداع المفاهيم»، وغيتاري طبيب نفسي، أنتجا أحد أهم الكتب الفلسفية. لكن بين الخلافات الأبدية والتعاون المشترك، ثمة لون من السجال يندر تكراره، حين يتحوّل الخلاف، وبعد اشتعال الشيب، إلى لقاءٍ مع نصوصٍ لطالما كانت منبوذة.
لم يكن آلان باديو على وفاقٍ مع جيل دلوز، والسبب ألخصّه من روايته، لقد شهدت فترة الستينات انتشار «المراهقة السارترية» ولاكان والمنطق الرياضي، دلوز لم يكن متصلاً بمرجعيات تلك الموجة، انشغل بأفلاطون، هيوم، نيتشه، برغسون، بينما باديو لديه مراجعه أفلاطون، هيغل، هوسرل، بالنسبة لباديو فإن دلوز كان ذوقه أميل إلى حساب التفاضل، إلى فضاءات ريمانن، كان ينهل منها الاستعارات، ودلوز الملهم الفلسفي لظاهرة «الفوضويين» هو العدو اللدود، ثم يفصح عن تأسيسه لعصابة هجوم على درسه الأشهر في المنابر الجامعية آنذاك، قصّة خلاف منهجي طويلة، انتهت أوائل التسعينات من القرن العشرين، حين تواصل باديو مع دلوز، وذلك بعد وفاة زميله غيتاري، طالباً منه البدء بتراسلٍ مستمر، هدفه تسليط الضوء على «دقة الوضوح، أو تميّزه المبهم» لتدوين كتابٍ حول فلسفة دلوز التي عاد إليها باديو بعد مقاومة لها امتدت لثلاثة عقود، لقد جاء إليه متأخراً إذ داهمته حينها حالة مرضية، ومزاجه ليس على ما يرام، وبعد عددٍ من الرسائل بينهما مزّق الورق كله وبشكلٍ فظ وأرسل بغضب: «لا أريد نشر هذه الأوراق»... عاد باديو إلى مقرّه ليدوّن كتابه «دلوز صخب الكينونة»، وضمّن مقدمة الكتاب هذه القصة المختصرة.
لقد جاء الكتاب كما يروي باديو «نتيجة صداقة صراعيّة بقيت، بمعنى معين، من قبيل الممتنع أن يحدث».
والكتاب يشبه دلوز أكثر من باديو، متجاوزاً للمنهج التسلسلي؛ كل فصلٍ منه هو قصيدة أو لوحة أو رسمة لمفهوم يتخيّله، يتناول بشاعرية فلسفية «مفهوم الواحد، تواطؤ الكينونة، الجدلية المضادة، مسار الحدس، في أساسٍ يعاود تفكّره، العود الأبدي والاتفاق، الخارج والطيّة، ومفهوم الطيّة» المفهوم الذي سبب عودة باديو لفلسفة دلوز.
«دلوز هو ابن القرن على الإطلاق. التفكير فرقٌ وتعرّف إلى الفروق. الأنطولوجيا تتطابق مع تواطؤ الكينونة. الأثر الذي لا يقوم على تراتبية هو تكثّف تكيانات، وتآينُ أحداث. منهج دلوز يرفض الاستناد إلى التوسيطات، منهج مضاد للجدلية. الكينونة المتواطئة لا فاعلة ولا منفعلة بل محايدة. الحدس الدلوزي ليس ذرة ذهنية، بل كثرة مفتوحة. البنية ليست إلا «سيمولاكراً». المعنى ينتجه اللامعنى وهو انتقاله الدائم، ولا ينتمي إلى أي علوٍ، ولا يكمن في أي عمق، ولكنه مفعول سطح، لا يمكن أن ينفصل عن السطح بصفته بُعده الذي يختص به. لا توجد إلا كثرات فعلية ومتحيّنة، أما الأساس فخاوٍ».
تلك بعض المقتطفات من النص الذي كتبه باديو بشغفٍ متأخر عن فلسفة دلوز، وكتبها من دون هوامش أو فصولٍ منهجية، بل أخذ يتأمل بالعدة المفهومية التي أورثها دلوز، يعتبرها حدثاً تاريخياً، مستعيداً مقولة فوكو أن نفكر مثل أن نرمي قطعة النرد، ودلوز خطّ مساحة جديدة، واستكشف أرضاً بكراً، وجزء من فلسفته تلك الهوامات والشبه، أو الغموض المخاتل، إنها فلسفة جسّ وفحص وهي بين الهدم والتأسيس، أو ما عرّفه كمال الزغباني (وأطروحته للدكتوراه عن فلسفة دلوز الفرق والإبداع)، ناقلاً عنه المترجم ناجي العونلي، بـ«التهسيس» كلمة تجمع بين «التهديم والتأسيس».
تلك السجالات الأبدية أو الطارئة تحدث زخماً علمياً، ولكن الساحة العربية اليوم تفتقر لمناخات مماثلة من السجال الحيوي، وإن بعد مدى الاختلاف لكنه ينتج تفجرات متعددة لتحفر مساراتٍ جديدة، ولكن العطب الأساسي في مفهوم الأكاديمي المطقّم والخلل الآخر بالمؤسسات المعرفية التي تحتاج إلى غربلة كاملة.
العلم جذوته النقاش، ولا يمكن تعاهده إلا بإدمان النقد وتعزيز صيغ المساجلة والنقض.