سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الإنترنت لا تتكلم العربية

الأرقام الجديدة للمحتوى العربي على الشبكة الإلكترونية مخزية وصادمة، وتحتاج استنفاراً كبيراً، ليس من الأفراد وحدهم الذين من الصعب أن يقوموا بخطوات جبارة وسريعة لكبح التدهور، وإنما من الحكومات التي ترسم الخطط ويفترض أن تضع الرؤى.
يشكل العرب 5.7 في المائة من سكان الكوكب و5.3 في المائة من مستخدمي الإنترنت، أما صفحات الإنترنت العربيّة فتمثل فقط ما نسبته 0.6 في المائة من مجمل عدد الصّفحات. بالمقارنة مع اللّغة الألمانيّة فإن من يتحدثونها هم 1.3 في المائة من سكان العالم لكنها تحتل مساحة 6.3 في المائة من صفحات الإنترنت العالميّة. هذه المعلومات التي صدرت كـ«تغريدة» عن «الإسكوا» هي مؤشر خطير على تقاعس العرب عن المساهمة في صناعة يومهم قبل مستقبلهم. والرقم ليس جديداً، فلم تكن المؤشرات يوماً إلا متهاوية. غير أن التوقعات كانت تميل في سنوات قليلة ماضية إلى اعتبار أن حالات التوهج الثوري جعلت العرب أكثر انخراطاً على الشبكة. ويتضح أن ما حصل هو العكس، لأن الثوار ومناوئهم انشغلوا بالتناكف على وسائل التواصل، والأخذ والرد بالسباب والتشاتم، فيما كان أصحاب لغات أخرى يشحذون هممهم في مجالات أكثر نفعاً.
الأعراض خطيرة، والتشخيص أكثر خطورة. فالعربية تبعاً لغالبية الإحصاءات مصنفة رابعة في العالم من حيث عدد المتحدثين، أن كلغة أولى أو ثانية وهي مستخدمة في 66 دولة وبشكل رئيسي في الدول العربية، ومع ذلك يخجل العربي من لغته ولا يرى فيها نفعاً أو ضرورة، مع أنها مطلوبة، والآخرون يعرفون قيمتها التجارية قبل الثقافية. من المعيب أن تكون المؤسسات الأجنبية الكبرى مثل «سي إن إن» و«بي بي سي» و«غارديان العربية» أكثر حرصاً على وجود لغة الضاد على مواقعها من بعض جمعياتنا المحلية أو مهرجاناتنا الفنية التي لا جمهور لها غيرنا.
هل يعقل أن جمعية تدافع عن النساء المعنفات بقيت لسنوات محتواها بالإنجليزية فقط؟ هل مقبول أن مهرجاناً للأفلام العربية ليس على موقعه أسماء الأفلام إلا تلك المترجمة إلى الإنجليزية، ولا نعرف الاسم الأصلي للفيلم الذي نبغي حضوره؟ هل عملي أن ينشر مهرجان لبناني تفاصيل برنامجه ومعلومات فرقه باللغة الإنجليزية، وإذا تكرم قرنها بالفرنسية، وربما ببعض السطور العربية القليلة، لرفع العتب. ثمة ما هو سوريالي في حياتنا. وحين تسأل يأتيك الجواب أكثر عبثية. الجمعيات تفضّل لغة المانحين الغربيين لتبرر مصاريفها أمامهم على موقعها، وتستعرض أنشطتها بلغة يفهمونها لتحصل على مبالغ تحتاجها في السنة التي تليها، أما من يفترض أنها تقدم لهم الخدمات فعليهم أن يجدوا مترجمين ليتواصلوا معها. الأكثر غرابة أن البعض يقول إنه لا يجد الوقت ولا التكاليف لينقل نصوصه إلى العربية!! ولا تعليق... إذن ما هي اللغة الرسمية وبأي لسان نفكر ونكتب؟ وهذه محنة أخرى.
لحسن الحظ أن الأمور تحسنت بشكل طفيف، لكن لا تزال الإحصاءات تظهر أن المحتوى العربي ككل يترنح بين واحد وثلاثة في المائة من مجمل ما هو موجود على الشبكة. أي أننا شبه غائبين. ولمن يخشى أن لا يقرأه الأجنبي، نطمئن إلى أن المستقبل القريب، سيجعل الترجمة أسهل من شرب الماء، وبالتالي فالاهتمام بذوي القربى سيعود على الجميع بنفع أكبر. مما يدمي القلب أن يتبين بحسب دراسة نشرتها مجلة «فورتون» أن أربعة في المائة فقط من أصل 500 شركة عربية كبرى، حرصت على أن تكون لها واجهة باللغة العربية. هل هي فعلاً الرغبة بالتوفير أم الظن أن العرب فاقت معرفتهم بالإنجليزية كل التوقعات؟ انظر حولك تدرك أن العامة تترك المدارس وبالكاد تفك الحرف، نحن أمم لا تزال تكافح لمحو الأمية، والواقع يخذلنا. لا يفهم لماذا تحرص «وكالة المخابرات المركزية الأميركية» أو وزارة خارجية الولايات المتحدة على وجود صفحتها بالعربية فيما تترفع مؤسسة أردنية أو لبنانية عن لغة أبنائها.
مؤكد هناك تقاعس من الجميع، من الجامعات العربية التي صارت بالمئات. ولا داعي للقول إنها كلما ظنت أن مرتبتها ارتفعت ضيقت من وجود الضاد على مواقعها. أين هي الأبحاث ليستفيد منها أبناء جلدتكم، ما قيمتكم العلمية إن لم يكن تواصلكم مع الأرض عضوياً؟ أين رسائل الماجستير والدكتوراه التي صارت بالأطنان، لماذا لا توضع على الشبكات، لتغذي هذا المحتوى الهزيل؟ لماذا لا نرى وجوداً رقمياً للكتب الجديدة بطريقة منظمة؟ القصور التقني لا يزال كبيراً أيضاً، الحكومات غافية عن دعم البحث التكنولوجي، عن تشجيع الشبان الموهوبين لإيجاد حلول لنشر الكتب بالعربية. منذ شهر فقط بدأ «كيندل» فعلياً بالتعاطي الجدي مع كتبنا. كل يغني على ليلاه ويحاول أن يحل مشكلاته التقنية وكأنما هو وحده المسؤول عن الأمة. هذا ما حاولت أن تفعله «دار نيل وفرات» لتحول الكتب الورقية إلى رقمية ولا تزال تحاول.
ليس من الظرف في مكان تحويل هذا المقال إلى مناحة. حل المشكلة ليست صعباً. القضية برمتها بسيطة تحتاج خطة، وإرادة، واستفادة من الخبرات العربية الجاهزة التي لا توظف في مكانها. يكفي أن نغير نظرتنا، أن نرى كما غيرنا أن هذه الشبكة حياة موازية لما نعيش على الأرض، فيها المدارس والجامعات والمصارف والجمعيات والترفيه وأسواق نبنيها على غرار أسواقنا القديمة لا مولاتنا الهجينة. مدن وقرى وطرقات تحتاج مهندسين ومساعدين لهم لتشييدها، يحيا فيها أناس يتحدثون لغتهم ولا يتخاطبون بطبيعة الحال بلسان غيرهم. هل يجوز أن تكون «ويكيبيديا» العبرية في المرتبة 40 و«ويكيبيديا» مصر «أم الدنيا» بلد التسعين مليون نسمة في المرتبة 113؟
الحاجة ملحة للخروج من نفق وسائل التواصل التي وظفناها لتضييع الوقت والتلاسن وعرض العضلات، والذهاب للبناء الجدي القائم على المعلومة والفائدة والابتكار، فسمّ «المحتوى العربي» الزعاف، هو القص واللصق والنقل والدوران في حلقة الثرثرة المفرغة.