مزعجات التلفزيون المفتوح بأعلى صوته من أول الصباح حتى منتصف الليل، لا تقل إرهاقاً عن مكالمات التليفون التي تستمر إلى مدة لا تقل عن ذلك كثيراً. وهذه وسيلة أخرى أصبحنا نستعملها من دون تقاليد محترمة توجهنا في استعمالها. المفروض في هذه الوسيلة أن تكون أداة اتصال طارئة لنقل معلومات لا يصح لها الانتظار.
بيد أن الناس دأبوا على استعمالها للدردشة الفارغة. وأكثر ما يزعجني فيها سماع الزملاء يخاطبون زوجاتهم، ويقضون ساعات في الكلام عن طبيخ ذلك اليوم، وما إذا وضعت الثوم في البامية أو نسيت الملح. وكل ذلك في الوقت الذي يوجد فيه شخص ينتظر خلو الخط لينقل مخاطبة مهمة، ربما تتعلق بمسألة فاتورة التليفون غير المدفوعة.
يزيد من إزعاج المشكلة أننا معتادون على الكلام بصوت عالٍ. الإزعاج فيه أن تستطيع سماع طرف واحد. تسمع الزوج يؤنب زوجته ولا تسمع ردها عليه! إنها عملية مزعجة تشبه مشاهدة فيلم سينمائي نهايته مقطوعة أو حذفها الرقيب.
والغريب أن الكلام بصوت عالٍ على التليفون مرتبط باللغة العربية. لاحظت معظم الزملاء يتكلمون بصوت واطئ في اللغة الإنجليزية، ويرفعون صوتهم عدة «ديسبلات» عندما يتكلمون بالعربية. كثيراً ما حدث لي عندما أتكلم بالإنجليزية أن الطرف الآخر يرد عليَّ ويقول: «رجاء ارفع صوتك. لا أكاد أسمعك». ولكنني لا أبدأ بمكالمة باللغة العربية إلا وتبادر زوجتي الإنجليزية إلى سد أذنيها، وتمسك بالأبواب والأعمدة خوفاً من سقوط السقف على رأسها!
ويظهر أن لنا تاريخاً في ذلك. فعندما كان سعد زغلول وزيراً للمعارف عانى كثيراً من الوكيل الذي كان في الغرفة المجاورة، وكان عليه أن يجري مكالمات كثيرة مع الإسكندرية. اعتاد على الكلام بصوت عالٍ أزعج سعد زغلول، واضطره أن ينادي على سكرتيرته ويقول لها: «قولي لسعادة البيه، مفيش داعي يرفع صوته حتى يسمّع مكتبنا في الإسكندرية. عندنا تليفون ده الوقت!».
وهذه مشكلة أخرى كلما تكلم أحدنا مع مدينة بعيدة. تسمعه يلعلع بصوته. مهما تشرح له أن الأسلاك تنقل الصوت بالدرجة نفسها، سواء أكان المكان قريباً أو بعيداً. مهما تشرح له ذلك يظل يلعلع ويصرخ. مثله في ذلك مثل الموظف الصغير الذي يسرع إلى لبس السترة، ويشد أزرارها، ويعدل رباطه عندما يتلقى مكالمة من المدير.
إنني شخصياً أتضايق من الشخص الذي يشغل تليفوني بدردشة فارغة، بدلاً من أن يزورني أو يدعوني للعشاء فأدردش معه دردشة فارغة على قد العشاء. الحقيقة أن الهذيان على التليفون إهانة لمستلم النداء. إذ تفترض أنه لا شغل له ولا ثمن لوقته. وهي أيضاً إهانة لأهله وأصحابه الذين ينتظرون على الخط. لهذا طوروا الآن وسيلة تعطي إشارة للمتكلمين تعلمهما بوجود أشخاص ينتظرون خلو الخط. وهناك جهاز تكبس عليه فتعطي إشارة كاذبة للمخاطب الثقيل تعلمه بوجود شخص ينتظر الخط. «آسف يا أبو أحمد الدكتور يريد يكلمني!» المتلفن الثقيل شخصية لم يسمع بها الجاحظ ليكتب عنها مجلدات! ولكنها تنتظر من يعالجها بما يكفي.
TT
يا ويل من مزعجات التليفون
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة