مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

هل ينجو «الناتو» من تقلبات العصر؟

يواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) تحديات جسيمة – ليس من خارجه بل من أعماقه نفسها. العضوان اللذان يتمتعان بأكبر جيشين في الحلف – الولايات المتحدة وتركيا – يشكلان تهديداً لمبادئ الحلف وسبل التعاون بين أعضائه.
من جهته، وجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب انتقادات لاذعة للحلف وأعضائه خلال حملته الانتخابية، وبعد توليه مقاليد الحكم وأدلى بتصريحات نارية أكثر من مرة يهاجم فيها الحلف. مطالبته أعضاء الحلف الآخرين بزيادة إنفاقهم في القطاع العسكري ليس جديداً وهو مطلب أميركي منذ سنوات، ولكن انتقاده للحلف وعدم اكتراثه لأمن دول شرق أوروبا على خلفية علاقته الحميمة بروسيا تثير القلق داخل الحلف.
أما الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، فقد هدد مبدأً أساسياً بين أعضاء «الناتو» وهو عدم اقحام السياسة في القوات المسلحة. وقد أحكم إردوغان سيطرته على القوات المسلحة بتسمية حليفه ياسر غولار قائداً للقوات المسلحة الشهر الماضي، وذلك بعد أن أقال 200 من الضباط، وقدمهم للمحاكمة ضمن حملة الاعتقالات والتصفيات التي تلت محاولة الانقلاب الفاشلة ضده صيف 2016.
وخلال الإسبوعين الماضيين طرأ تغيير آخر على الحلف وهو الخلاف العلني والمتصاعد بين ترمب وإردوغان، مما أدى إلى فرض عقوبات متبادلة في إطار تصعيد سياسي نادر بين عضوين في الحلف.
وعلى الرغم من أن العلاقات بين البلدين لم تنقطع، إلا أن فرض العقوبات وإعلان كل طرف عدم ثقته بالآخر، يزيدان من الضغوطات على الحلف.
كل من ترمب وإردوغان لا يؤمنان بالعمل الجماعي وخاصة في ما يخص السياسة الخارجية. أما إردوغان، فقد خاطر باقحام «الناتو» في مواجهة عسكرية مع موسكو أكثر من مرة على الحدود السورية، بينما اليوم بات ينسق معها وطهران حول مناطق نفوذ كل منهم في سوريا.
يمثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاملاً مهماً يؤثر على «الناتو» من خارجه. ليس هناك شك في أن بوتين يعتبر «الناتو» خصماً، إن لم يكن عدواً. ومنذ أن تولى الحكم وهو يسعى لتحجيم الحلف ومنع توسعه. وفي عام 2008، حضر بوتين قمة «الناتو» في بوخارست ليشدد على أن بلاده لن تقبل بتوسع الحلف شرقاً.
كانت كلمة بوتين الشهيرة واضحة: لن يقبل بتمدد الحلف، خاصة أنه يعتبره أكثر من حلف عسكري، بل يعتبره حلفاً سياسياً أقيم لمواجهة التوسع الروسي خلال العهد السوفياتي. وكان تحذير بوتين قبل عقد من الزمن واضحاً، ولكن غالبية قادة «الناتو» اختاروا حينها تجاهله إذ لم تكن روسيا جمعت قواها بعد. وعندما ألقى بوتين خطابه في القمة، خرج عدد غير قليل من قادة دول الحلف من القاعة، الأمر الذي اعتبره بوتين حينها إهانة له. لكن الأمور تغيرت وبوتين أصبح من أقوى الزعماء، ويسعى اليوم إلى توسيع نفوذه، في دول البلقان من جهة وفي آسيا الوسطى من جهة أخرى. اتفاق بحر قزوين الذي اشرف بوتين على إبرامه هذا الأسبوع دليل آخر على توسع النفوذ الروسي، والذي قال بوتين إنه من الممكن أن يمثل حلفاً عسكرياً بين الدول الأعضاء، التي تضم بالإضافة إلى روسيا، كلا من إيران وكازخستان وإذربيجان وتركمانستان.
التصدع الذي يشهده «الناتو» ليس فريداً بل يرمز لمرحلة مضطربة مع خروج العالم من مرحلة «ما بعد الحرب الباردة» إلى مرحلة أكثر تعقيداً. الاضطرابات في «الناتو» تأتي في وقت تظهر تحالفات جديدة، مثل دول بحر قزوين، لتعكس الوقائع الجديدة للعقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. تتزايد الدول والمؤسسات التي تحتل موقعاً مؤثراً في العالم، بأهداف ومصالح متفاوتة، بينما تتراجع أخرى. في وقت تتصاعد المنافسة على المصادر الطبيعية ومواقع النفوذ، تتصدع الآليات القديمة.
على سبيل المثال، الدول الأوروبية التي لطالما شكلت قلب حلف «الناتو» وتمثل ثقله الجغرافي، بدأت تنظر إلى إمكانية إنشاء قوة دفاعية مشتركة لأعضاء الاتحاد الأوروبي. وفي حال قام مثل هذا التنظيم العسكري، سيغطي على دور الناتو في القارة الأوروبية.
يأتي هذا التطور على أثر القرار البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي وبحث المنظمة عن آليات أخرى لتقوية أواصر التعاون بين الدول الـ27 المتبقية. كما أن الانغلاق الأميركي يدفع الدول الأوروبية، مثل غيرها من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، بالبحث عن ترتيبات مختلفة لضمان أمنها القومي والإقليمي.
لا شك أن المؤسسات الدولية التي شكلت النظام العالمي المتعارف عليه بعد الحرب العالمية الثانية تمر بتقلبات. ومع انتهاء الحرب الباردة وتراجع الولايات المتحدة كالقوة العظمى الرئيسة في العالم، لا بد من إعادة النظر في هذه المؤسسات التي تشكل عنصراً مهماً في النظام العالمي. إلا أنه من غير الواضح الآن ماذا سيحل محلها، مما يجعل دولاً أعضاء تتمسك بما لديها من تحالفات. ولهذا، في المرحلة الراهنة، يبدو أن الناتو قادر على استيعاب هذه المشاكل، لأنه يبقى الحلف العسكري الأكبر في العالم والذي استطاع أن يبقي على مبادئه حتى خلال فترات الخلاف، مثل ما حدث بين الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا في حرب 2003 في العراق.
وعندما يحتفل الحلف بعامه الـ70 في أبريل (نيسان) المقبل، سيكون أمام قادة الدول الأعضاء خيارين – إما الاتفاق على مستقبل مشترك يتطلب التعاون الموثوق أو الاتفاق على مصالح عسكرية دفاعية محدودة لا ترقى إلى تحالف متين مبني على توسيع أواصر التعاون. لا يوجد هناك خيار حقيقي ثالث – إلا أن يعني ذلك انهيار الحلف.