خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

دنيا الأوراق والمؤتمرات

بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية انتقلنا إلى عالم جديد يتماشى مع ظهور الدول النامية. تضمن ذلك الهوس بالمؤتمرات. ونصيحتي لكل من تفكر في الزواج بأستاذ أو خبير أو صحافي أو سياسي، أو أي رجل يتعاطى صناعة التفكير وتجارة الآراء، أن تتروى قليلاً وتسأل.
كان هناك زمن حذرت فيه العارفات بناتهن من الزواج بالبحارة وسائقي الإبل وأهل المراكب. ويظهر أن الوقت قد تغير وآن لهذه النصيحة أن تنتقل ضد أهل الفكر وحملة الأقلام. لا يمر يوم إلا وتجد الواحد منهم عائداً من مؤتمر في فاس ثم تخف لتتناول القهوة معه فإذا به قد انطلق لمؤتمر في إسطنبول.
مؤتمرات عن تخبط الإعلام العربي ومؤتمرات عن لخبطة ألوان الأعلام العربية. مؤتمرات قمة ومؤتمرات نكسة. ومؤتمرات تحضير لمؤتمرات ومؤتمرات لدراسة مقررات مؤتمرات. في نيس وفي موسكو وجنيف وجزر هاواي، في أي مكان يعتدل فيه الهواء وتتألق الوجوه ويطيب الطعام وتعمر الأسواق وتزدحم المقاهي.
أينما تلتفت في المطارات، تجدها غاصة بالمفكرين يحملون معهم أوراق محاضراتهم معهم، حتى قيل أخيراً فأصبح القول قولاً مأثوراً: «اكتب ورقة لتتفرج على العالم»! وسمعت بأن إحدى شركات السفر تزمع عقد مؤتمر دولي تحت هذا الشعار بالضبط وستقدم خلاله جائزة لأقصر ورقة قطعت أطول مسافة.
قبل أسابيع عقد مؤتمر في إسطنبول عن أطايب الطعام وقدمت فيه أوراق قيمة عن «كيفية قلي القيمة بالبصل». وألقت خلاله إحدى الخبيرات الإنجليزيات بالطبخ العربي الذي لم تذقه طوال حياتها حتى بلغت من العمر عتياً، ورقة مدعمة بالمصادر والوثائق عن الاختلافات المحلية في الشرق الأوسط في حشو الكبة. وذهبت في رأيها إلى أن الآشوريين كانوا أول من طبخ كبة البرغل في التاريخ. بيد أن الكبسيين كانوا أول من أكلها. ولهذا سموا بالكبسيين. وهذه كلها معلومات مهمة بادر الجائعون في شرق أفريقيا في طلب نسخة منها.
والمهم أن هذا المؤتمر جذب ما يزيد على المائة خبير ومشارك ومراقب. تركوا عوائلهم ومسؤولياتهم وراءهم وجاءوا ليأكلوا الكبة والمحشي ويبدوا رأيهم فيها.
وقبل سنتين حضرت مؤتمراً عن الصحة مدفوعاً برغبة ملحة في الحصول على شيء أعالج به وجع الرأس الذي أخذ ينتابني بفظاعة منذ بدأت بقراءة «ولاية الفقيه». ولكن المؤتمرين لم يتحدثوا بتاتاً عن وجع الرأس ولا عن أي مرض أو وجع أو مغص. واقتصر كلامهم ونقاشهم على الإشادة بوزير الصحة الذي وعدهم بإقامة مؤتمر آخر عن الثوم كمادة طبية علاجية. ما قيل ذلك حتى تفتقت قريحة الشعراء بإلقاء قصيدة أو قصيدتين يشيدون فيها بكفاءة الوزير المحترم وحسن ضيافته. وتلت ذلك مجموعة من القصائد عن محاربة الاستعمار والصهيونية. وعدت من المؤتمر وقد أصبح صداع رأسي ضعف ما كان عليه قبل حضوري هذا المؤتمر.