بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

لعبة «جيكل» و«هايد» فلسطينية

يبدو أن قيظ لندن غير المحتمل أباح التنفيس عن غيظ النفوس بأي شكل متاح. الأحد الماضي، خلال غداء خفيف مع ليندا، جارتي الإنجليزية حتى العظم، راحت هي تتصفح جريدة «ميل أون صاندي»، صحيفتها المفضلة بحكم توجهها اليميني المحافظ، فيما شدني موضوع غلاف ملحق الصحيفة عما طرأ من تغيير في حياة كريسّي هايندي، مغنيّة الروك الأميركية، بعد بلوغها العام السادس والستين، وكيف أنها باتت تثير الفضول أكثر، إذ تمارس، على المكشوف وبلا خوف، أشكالاً من شخصية «جيكل» و«هايد». لافتاً انتباه ليندا إلى عنوان غلاف الملحق، تساءلت: تُرى، أيحتمل أن كل مخلوق يحمل داخله شيئاً من «جيكل» و«هايد»؟ سارعت تجيب بلا تردد: طبعاً.
الأرجح أن الإجابة لم تبتعد عن الصواب، إذا كان المقصود، على وجه التحديد، ما أراد الأسكوتلندي روبرت لويس ستيفنسون، مؤلف رواية «دكتور جيكل ومستر هايد» - المنشورة في أول طبعة لها بلندن سنة 1886 - تسليط الضوء عليه: الصراع بين نوازع الخير ودوافع الشر داخل أي نفس بشرية. ضمن هذا الفهم، ربما يصح افتراض أن كل إنسان خيِّر بالفطرة، وصاحب مكانة محترمة في المجتمع، سوف يصارع، في لحظة ما، وربما طوال مرحلة محددة من حياته، عوامل شرٍ تحاول أن تفرض عليه ارتكاب حماقة غير متسقة مع أي شخص سوي.
يخرج الأمر عن الحيز الطبيعي إذ يؤدي ذلك الصراع إلى تقمص الدكتور جيكل - ومثله من يعاني هكذا وضع - شخص مستر هايد، في محاولة لإرضاء الجانب غير السوّي، لكن الخطر الفظيع يتمثل في أن مستر هايد الشرير، يصبح هو الأنا الطاغية على تصرفات الدكتور جيكل، من غير أن يؤثر ذلك على صورة الرجل الخيِّر في أعين أكثر الناس.
ترى، هل يقع مثل هذا التناقض المُفجِع، في ممارسات ساسة كبار يتحملون مسؤولية صنع القرار على مستويات عدة في المجتمع؟ الجواب البسيط هو: نعم، يحصل في مختلف مجتمعات الأرض، وفي مراحل عدة من أعمار الأقوام. شواهد كثيرة تحفل بها سجلات الأمم عبر القرون تقول إن هناك بين الشعوب مَن دفع باهظ الثمن طوال عقود، فقط لأن مستر «هايد» الطاغية، المختبئ تحت مسام جلد زعيم ليس يبدو للناس منه سوى ما يتوهمون أنه الخير كله، سيطر في النهاية فعاث في أرض قومه أنفسهم، قبل غيرهم، فساداً، حتى هلك الزرع، وجف الضرع، وما عاد ينفع عض أصبع الندم شيئاً.
إنما، إذا كان يسهل فهم أسباب حضور هكذا وضع في دوّل مستقلة ذات سيادة، كيف يمكن تفهم ممارسة معظم ساسة فلسطين، منذ ما قبل نكبة 1948 وما تلاها لاحقاً، للعبة «جيكل» و«هايد»، سواء في التعامل مع الفلسطينيين أنفسهم، أو مع الجوار العربي، وامتداده الإسلامي، أو على الصعيد الدولي عموماً. ربما يتساءل البعض: هل من مثال على ذلك؟ الواقع أن الأمثلة كثيرة، والأرجح أن وعي القراء، والقارئات، مُلمٌ بتفاصيل نشأة الحضور الفلسطيني، سياسياً وعسكرياً، وتطوره إلى ما يشبه دول ضمن دول، في مجتمعات عربية عدة، ومُلمٌ من ثم بالكوارث التي أوصل إليها ذلك الحضور عندما اعتاد ممارسة اللعبة ذاتها: «جيكل» و«هايد».
ضمن السياق ذاته، ثمة خطر جديد بدأ يطل منذ إطلالة فضاء العالم الإنترنتي، لكنه آخذٌ في التصاعد. هو خطر يتمثل في انتشار كتائب إلكترونية تتخذ من فلسطين القضية، والشعب، والمأساة، ستاراً لتوجيه كلام فظ، ومعيب، ضد دول عربية محددة، خصوصاً دول الخليج. أقرب للمستحيل أن يمارس أي فلسطيني يحمل حب فلسطين في القلب، خالصاً لها بكل ذرات ترابها، وبلا ذرة شبهة ولاءات لغيرها، هكذا تصرف يضع الفلسطيني الإنسان، وليس السياسي، في صورة من يمارس لعبة «جيكل» و«هايد» في التعامل مع أشقاء عرب. لقد عشتُ، كما كل أترابي، زمناً لم يكن أغلى عند كل عربي من قضية فلسطين وشعبها. ها قد أتى زمن نُفّر فيه عربٌ كثيرون من القضية وأهلها، لأن بعض أولئك الأهل حشروا أنوفهم في شؤون غيرهم من العرب، وبلا خُلق أو أدب، فما المُستغرب إذا انفض الآخرون وأداروا ظهورهم. يبقى الأمل أن يستيقظ الضمير، رغم قيظ الصيف، وأن يكف بعض الفلسطينيين عن ممارسة لعبة «جيكل» و«هايد» في التعامل مع أي من أشقائهم العرب.