علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

ما سبب اعتراض المودودي على الانقلاب السياسي الإسلامي حتى لو نجح؟

نأتي الآن للغرض الذي من أجله أوردت نص نصيحة المودودي في خاتمة محاضرته «واجب المسلم اليوم» التي ألقاها بمسجد الدهلوي بمكة في موسم الحج في منتصف عام 1962م.
بطبيعة الحال إن الدعوة الدينية التي كانت تعصف بشباب الحركات الإسلامية قد سبقت تاريخ إلقائه، بسنة أو سنتين أو سنوات، ولم تكن تلك الدعوة وليدة اللحظة في موسم ذلك الحج. ولا بد أنه كان قد أبلغ بها واستشير فيها. السؤال هنا: هل كانت تلك الدعوة بدأت لدى شباب إسلامي معين وفي بلد بعينه أم أنها كانت تشمل أكثر من شباب إسلامي ينتمون إلى أكثر من بلد عربي وبلد مسلم؟
إجابة عن سؤال كهذا، يحول بينها وبين الحصول عليها - يا للأسف - أن الإسلاميين يعتّمون على تاريخهم السياسي. والمشكلة أنهم إن اضطرتهم الظروف وقهرتهم على الحديث عن حادثة من حوادثه، فسيتحدثون عنها بقدر من التضليل والتدليس والمغالطة.
تخبرنا وثائق متعددة كشف عنها في وقت متأخر أن التفكير في الانقضاض على السلطة أو الخروج عليها بدأ لدى مجموعات شبابية إسلامية ثلاث في مصر، ابتداء من أواخر خمسينات القرن الماضي التي رأت أن الطريق إلى ذلك يبدأ بإعادة إنشاء جماعة الإخوان المسلمين من جديد على نحو سري. فهل هذا يعني أن تلك النصيحة كانت موجهة إلى هؤلاء، أم أنها كانت تشمل غيرهم من الشباب الإسلامي في بلدان أخرى؟
يروي بعض أتباع المودودي من الإسلاميين الهنود أن معلمهم وإمامهم كان ضد خوض الإخوان المسلمين في مصر مواجهة مسلحة مع حكومتهم. وعلى الأغلب إنهم يشيرون بذلك إلى تلك النصيحة التي من الواضح أن تنظيم 1965 الإخواني الذي قاده سيد قطب لم يأخذ بها وليس إلى محاولة الإخوان المسلمين الفاشلة اغتيال جمال عبد الناصر في حادثة المنشية عام 1954.
عارض المودودي استخدام الشباب الإسلامي العنف والحرب والسلاح لتغيير الأوضاع السياسية في تلك المحاضرة، ليس لأنه يرى في ذلك العمل خروجاً على مسألة طاعة ولي الأمر، فهو على العكس من ذلك يرى من منظور ديني متشدد ومغال، أن ليس ثمة حكومة إسلامية حقة ولا دولة إسلامية، إسلامها هو إسلام صحيح في العالم العربي والعالم الإسلامي منذ أن شرع في التأليف وكتابة المقالات، لا في الحاضر ولا في الماضي. فالحكومة الإسلامية والإسلام الصحيح، استمرا عنده إلى أمد قصير في خلافة عثمان. إن من وجوه التمييز بين إسلام المودودي وإسلام علماء بلده الهند السنيين وإسلام علماء السنة كافة، أنه لا يقول مثلهم بمسألة طاعة ولي الأمر بشروطها المعروفة في الفقه السني، بل يمكن القول إنه أول مثقف ديني سني في العصر الحديث اشتغل بدأب على نقض تلك المسألة وعلى النيل والطعن الديني في إسلام العلماء المتأخرين والمتقدمين.
وعارضه ليس لأنه يخشى على الانقلاب المزمع عمله من قبل شباب إسلامي من الفشل، فهو قد قال في آخر نصيحته: ثم نجحتم في هذا الشأن إلى حد ما...
عارضه لأنه يطمح إلى صنع انقلاب فكري شامل وجذري في المجتمعات الإسلامية، متدرج وبطيء ومتعدد الأبعاد في الانقلاب على ما سماه الجاهليات الثلاث: الجاهلية المحضة وجاهلية الشرك وجاهلية الرهبانية، يستغرق العمل على تحقيقه زمناً طويلاً. وهذا العمل بعد أن يؤتي ثماره يتلوه تنفيذ الانقلاب السياسي بأدواته المعروفة، وهي استخدام العنف والحرب والسلاح لتغيير الوضع السياسي. وهذا ما عناه بقوله: ثم نجحتم في هذا الشأن إلى حد ما. أي نجحتم في الاستيلاء على السلطة السياسية في البلد الذي أنجزتم الانقلاب فيه.
ففي نظريته الخاصة، الانقلاب السياسي على الحكومة من دون إنجاز انقلاب فكري شامل وجذري في المجتمع المسلم بمختلف طبقاته وفئاته نوع من الاستعجال الذي لا يحقق الغاية المبتغاة منه، إذ سيعقبه - وفق ترسيمته التنظيرية - انقلاب جاهلي مضاد، تنتصر الجاهلية فيه على الإسلام مرة أخرى كما انتصرت عليه في صدر تاريخه بحسب زعمه الزائف.
فهو قد ماثل ما بين الاتجاه السريع لصنع انقلاب سياسي وما بين سرعة الانطلاقة المظفرة في الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة.
وسرعة الانطلاقة المظفرة في الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة سماها - كما مر بنا في المقال السابق - سرعة اتساع رقعة الحكومة الإسلامية وادعى أنها أحد سببين لوثبة الجاهلية على الإسلام في صدر الخلافة الراشدة. وتسبيبه هذا يدين ضمناً - لأنه لا يقوى على التصريح بذلك علناً - سرعة الانطلاقة المظفرة في الفتوحات الإسلامية، ويعدها تسرعاً واستعجالاً، وجدت الجاهلية فيه بتيارها الجارف - حسب تعبيره - سبيلها إلى النظام الجماعي في الإسلام.
إن تلك المماثلة والنتائج التي كانت ستؤدي إليها - من منظوره الديني المتشدد المغالي ووفق ترسيمته التنظيرية -كانت هي سبب اعتراضه.
إننا إن عدنا إلى نص محاضرة المودودي، وقرأنا ما جاء فيها، سنجد أنه وضع الشباب الإسلامي الطافح بالعاطفة الدينية والمتقد في حماسته الدينية أمام موقف متضارب بين ما جاء في نصها وما جاء في خاتمتها من نصيحة. فكل جملة مما جاء فيها تحفزهم على الخروج على السلطة والاستيلاء عليها في البلدان الإسلامية وتحفزهم على محاربة الغرب انتصاراً للإسلام، ونصيحته تدعوهم إلى التريث وضبط النفس والصبر وسلوك طريق طويلة وشاقة لانتزاع السلطة والحكم من أيدي الجاهلية(!)، وإقامة حكومة إسلامية «إلهية(!)»، والأخذ بثأر الإسلام من الغرب.
انظر كيف يستثير الحمية الدينية لأولئك الشباب على الثقافة والحضارة الغربية وعلى الغرب في فترة ما بعد الاستعمار وعلى الحكام المسلمين والحكومات الإسلامية في عهد الاستقلال:
«إن المستعمرين الغربيين لو سلبوا أموالنا سلباً ونهبوا ثرواتنا نهباً وقتّلونا تقتيلاً وأبادوا أولادنا عن بكرة أبيهم، ودمروا بيوتنا تدميراً لما كان هذا الظلم أشنع بوعاً، وأشد قسوة، وأفدح نتيجة، من الظلم الذي اقترفوه نحونا ببث سموم حضارتهم المادية وثقافتهم الاستعمارية، إنه كلما تمت لهم السيطرة والانتصار في قطر من الأقطار الإسلامية قضوا على نظامنا التعليمي والتربوي نهائياً - إن أمكن لهم - أو جعلوا المتخرجين منه من سقط المتاع وشيئاً لا مقام له إلا في سلة المهملات».
أما الحكام المسلمون والحكومات الإسلامية - وهما عنده لا يستحقان هذا الوصف فهو يصفهما بخلفاء الاستعمار في الأرض وبالمستعمرين الجدد - فـ«قد نهلوا من سموم أفكارهم المادية والإلحادية، كالعصبيات الجاهلية (يقصد بالعصبيات الجاهلية الأفكار القومية الحديثة) والإباحية الخلقية والمجون والخلاعة حتى الثمالة».
ويتهم الحكام المسلمين أنهم في عهد الاستقلال من الاستعمار خانوا الإسلام. فالإسلام - كما قال - أول ضحية لخيانتهم بعد الاستقلال.
ثم يسأل مستنكراً فعلتهم المزعومة والمفتّرات من قبله: «أليس هذا - أيها الإخوان - من أكبر الخيانات التي شوهدت في تاريخ الإسلام، وأعظم أكذوبة ظهرت في مضمار السياسة، وأشيع انحراف رأته عين السماء».
هو لا يستثني حاكماً أو حكومة إسلامية ناضلت من أجل الاستقلال، ولا يستثني حاكماً أو حكومة إسلامية لم تشهد بلادها لا استعماراً ولا انتداباً أجنبياً من هذا الاتهام. وهو لا يستثني بلداً إسلامياً من التردي في «الانهزام الفكري والانحلال الخلقي والتبعية الثقافية للغرب» على يد الاستعمار الغربي حتى البلد الذي لم يسبق له أن قد استعمر استعماراً مباشراً أو غير مباشر.
يقول في محاضرته: «وكان الاستعمار ألقى عصاه في البلاد الإسلامية في القرن الثامن عشر للميلاد، وبلغ أوجه في أوائل القرن الحاضر، حيث قد سيطر على البلاد الإسلامية كلها ما عدا النزر اليسير الذي بقي بمنجاة من الاستعباد المباشر للمستعمرين. إلا أن الهزائم تلو الهزائم التي أصابته قد جعلته لا يختلف في ذله واستكانته عما آل إليه أمر من حوله من البلاد الإسلامية، بل صار أكثر شعوراً بالنقص وأشد ذعراً من الذي سلبه الاستعمار حريته سلباً كاملاً».
يقصد بهذا القول تركيا. وتركيا تأثرت بالثقافة الغربية واتجهت إلى التحديث ليس بسبب - فقط - هزائم تلو هزائم تلقتها لكنه يريد بهذا التسبيب أن يجد سبباً مهيناً ومشيناً لتأثرها بالثقافة الغربية واتجاهها للتحديث.
السعودية واليمن الشمالي مثلهما مثل تركيا «من النزر اليسير الذي بقي بمنجاة من الاستعمار» ومع ذلك لم يعرج عليهما. لم يعرج عليهما لأنه لا يريد أن يستثني بلداً إسلامياً من قذفه في هوة الانهزام الفكري والانحلال الخلقي والتبعية الثقافية للغرب! وللحديث بقية.