عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

تأديب وتهذيب وإصلاح... بالتليفون

تجربة جديدة مثيرة للجدل في سجون بريطانيا تلقى أقلية من المؤيدين وأغلبية من المحتجين.
مصلحة الخدمات الملكية للسجون، وفي بريطانيا تتبع وزارة العدل وليس وزارة الداخلية، جربتها لعدة أسابيع في 26 سجناً من مئات السجون.
بعد تقارير بنجاح التجربة، قررت وزارة العدل الإعلان عنها، وتجربتها في 30 سجناً آخر، وهو ما أثار النزاع. تزويد كل زنزانة بخط تليفون يمكن السجين من إجراء مكالمات، عبر «سويتش» السجن، مع الأسرة، ومحاميه، والاختصاصيين الاجتماعيين.
الاتجاه للتوسع بمضاعفة عدد السجون التي تخضع للتجربة، يعني أنها حققت الغرض من هذه الخطوة الجريئة.
الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي (1821 -1881)، صاحب «الجريمة والعقاب»، و«الإخوة كارامازوف،» (وكان قضى أربع سنوات أشغال شاقة في السجن)، قال: «يمكن الحكم على مدى تحضر المجتمع بدخول سجونه».
ظاهر عبارة دوستويفسكي أن الأحوال المعيشية لمن يعتبرهم المجتمع أدنى أفراده تعكس مستوى معيشة بقية المجتمع «الأفضل حالاً»، وكلما تحسنت طريقة تعامل المجتمع مع من يعتبرهم أدنى الأفراد أخلاقياً، فبديهياً أن المجتمع يتعامل مع بعضه البعض بطريقة أكثر تحضراً.
المعنى الأعمق للعبارة هو التعامل مع السجين، في فترة قضاء المدة، كأنها مدرسة أو مؤسسة اجتماعية تعده لمواجهة الحياة بعدها، وكيف سيعود إلى حياة المجتمع مواطناً عادياً.
العبارة تطرح الأسئلة عن مفهوم المجتمع للسجن والغرض منه؟
وما هو مفهوم المجتمع للمذنب الذي يقضي العقوبة. هل لا يزال إنساناً ينتمي للمجتمع؟
وبالتالي يتغير المفهوم بتعريف السجن إنسانياً واجتماعياً.
هل السجن إحدى مؤسسات المجتمع؟
أم كما يعتبره المتطرفون في قياسهم للأحكام، ويرون الأشياء من منظور الأبيض والأسود، هو مكان لإلقاء «نفايات» المجتمع؟
لكن بمفهوم الأمر الواقع العملي حتى النفايات تدور ويستفاد منها.
يوجد في بريطانيا (إحصائية السادس من هذا الشهر) 79074 من السجناء الرجال و3827 من النساء، يقضون عقوبات أصدرتها المحاكم، وتتراوح ما بين 6 أشهر و20 عاماً.
عدد من شملتهم التجربة الموسعة لإدخال خطوط التليفون، التي ستبدأ بعد بضعة أسابيع أقل من 10 آلاف.
هناك نقص في عدد حراس السجن والإمكانات، والسجون تعاني من الازدحام، وترتفع فيها نسبة الجريمة والمخدرات وإيذاء الذات والانتحار بأضعاف النسبة العادية في المجتمع.
رد فعل الرأي العام لتجربة التليفون في أغلبه هو الغضب، فالسجن بالنسبة لمعظم الناس هو إنزال العقاب بالمجرم الذي أضر بالمجتمع. عقاب، أو بالأحرى انتقام المجتمع من المجرم المذنب. ويرى الرأي العام، خصوصاً الذين يرون الأمور بمنظور الأبيض والأسود (ومعظم هؤلاء من المطالبين بإعادة عقوبة الإعدام التي ألغيت من كل بلدان أوروبا) أن خط التليفون الخاص في الزنزانة هو من الكماليات التي لا يتمتع بها كثير من فقراء المجتمع الذين لم يرتكبوا أي مخالفات.
السجون تواجه مشكلة منذ عدة سنوات بسبب التليفون.
من الناحية الأمنية، يصطف المساجين في طابور طويل على تليفون واحد عمومي في طرف العنبر أو الجناح (يضم عدة زنزانات تزيد على مائتي سجين)، وهذا يؤدي إلى مشاكل واشتباكات بالأيدي وجروح.
المشكلة الأخرى أن عدم وجود وسيلة الاتصال الحديثة تؤدي بالنزلاء إلى تهريب تليفونات «موبايل»، صغيرة الحجم... بل إن بعض الشركات تنتج هذا المحمول خصيصاً للتهريب مخبأ في جسم زائر أو في علبة طعام.
التليفونات «الموبايل» المهربة لا تستطيع إدارة السجن مراقبتها، ويستخدمها مجرمون عتاة لتدبير جرائم تهريب مخدرات وإدارة شبكات الجريمة من داخل وخارج السجن.
تجربة خطوط التليفون داخل كل زنزانة نجحت في إنهاء مشكلة الازدحام على التليفون العمومي.
كما بدأت أيضاً تجربة (تستخدم في بعض المستشفيات والمسارح) وهي إطلاق موجة منع إشارة التليفون «الموبايل» من العمل، وبالتالي قصر اتصال السجين على الخط الأرضي المركب في الزنزانة.
السجين يدفع ثمن المكالمات، وهناك قائمة بالأرقام المسموح الاتصال بها مسبقاً، مثل أفراد الأسرة، والمحامي والطبيب، والاختصاصي الاجتماعي وغيرهم.
الاختصاصيون النفسيون والقائمون على معالجة الجريمة وأسبابها قالوا إن الاتصالات وبناء الشبكة الاجتماعية تساعد السجين على العودة إلى المجتمع.
طول المكالمة غير محدد بعكس التليفون العمومي، وهذا جزء من التأهيل النفسي. وهنا التركيز على التأهيل. السجن تأديب وتهذيب وإصلاح.
في الأنظمة التي تجعل من السجن عقاباً فقط يصبح السجن مدرسة لتخريج المجرمين ليصبحوا أكثر تدرباً وعتاة في مجال الإجرام. معظم الدراسات أشارت إلى تناسب طردي بين قسوة النظام المتبع في السجن، وبين عودة المساجين بعد انتهاء العقوبة كمجرمين جدد إلى السجن نفسه. أي يدور السجين في حلقة مفرغة من ارتكاب الجريمة، حيث يقضي العقوبة، ويخرج ليعود مرة أخرى بعد إدانته في جريمة جديدة؛ والسبب كما يقول المختصون، أن السجين لم يتم تأهيله أثناء فترة السجن ليعود إلى المجتمع عضواً ينتمي إلى نسيجه الأكبر.
إجراء السجين مكالمات تليفونية مطولة مع أصدقاء وأهل ومعارف هي جزء من هذا التأهيل للعودة إلى المجتمع، مثلما قال المتحدث باسم مصلحة السجون عن التجربة، مضيفاً أن معظم المساجين ومرتكبي الجرائم، لم تكن لهم علاقات أسرية قوية تربطهم بالأسرة والأقارب، وإجراء مكالمات من خصوصية الزنزانة، وليس على مسمع من الآخرين، ستجعلهم أكثر قرباً وتلاحماً مع بقية أفراد الأسرة، وهو جزء من التأهيل للعودة للحياة المدنية.
خبراء وزارة العدل متفائلون بالتجربة، والعائق الأكبر أمامهم هو إقناع الرأي العام بها.
الطريف أن مفهوم «السجن تأديب وتهذيب وإصلاح» يعود إلى القرن التاسع عشر. التعبير ظهر في مصر منذ أيام الخديوي إسماعيل الذي كان تأهيل السجناء في عهده تجاوز مجرد إعدادهم للحياة المدنية في المجتمع.
في سنوات البناء والتشييد التي شهدتها المدن كالإسكندرية والقاهرة، كانت هناك مشاريع عمومية.
جندت وزارة الأشغال وقتها المئات من المساجين للعمل في المشاريع مقابل معادلة فترة العمل بتخفيف مدة السجن، وأيضاً بصرف أجور بسيطة تدخرها مصلحة الشؤون الاجتماعية في حساب استثماري للمساجين لمساعدتهم بعد انتهاء العقوبة.
بجانب الفائدة الاقتصادية بالاستفادة من العمالة الرخيصة، فإن جيلاً كاملاً من المساجين دُربوا على مهارات جديدة كالبناء والنجارة وقطع الأحجار، وأعمال السباكة والكهرباء، وبعد انتهاء فترة التأديب والتهذيب بالعمل الجماعي والانضباط، جاءت فترة الإصلاح، بأن يتعلم المسجون حرفة أو مهنة بمهارات جديدة، تصبح بعدها حرفته، ولا يعود مرة أخرى إلى طريق الإجرام.