علي المزيد
كاتب وصحفي سعودي في المجال الاقتصادي لأكثر من 35 عاما تنوعت خبراته في الصحافة الاقتصادية وأسواق المال. ساهم في تأسيس وإدارة صحف محلية واسعة الانتشار والمشاركة في تقديم برامج اقتصادية في الإذاعة السعودية، ومدير التحرير السابق لصحيفة الشرق الأوسط في السعودية وهو خريج جامعة الملك سعود.
TT

طريق مكة

قلت لكم في مقال سابق إن عملي الصحافي جعلني كثير الحِلّ والترحال، كما أنني أيضاً من محبي السفر، وقد شاهدت أن كثيراً من الدول التي زرتها تعرف أهدافها من استقبال الزائرين، أياً كان هدفهم، سواء كان دراسة أو سياحة أو رحلات علاجية أو غير ذلك. فلنبدأ بالولايات المتحدة الأميركية حيث إنني أكتب لكم من قرية صغيرة في ولاية بنسلفانيا تسمى (إنديانا) وهي غير إنديانا الولاية... المهم، أن أميركا حينما واجهت الأزمة الاقتصادية عام 2008 اتخذت مجموعة من الإجراءات لتنشيط اقتصادها ومنها إعطاء بعض التسهيلات لراغبي شراء العقارات، والأهم من ذلك إعطاء تأشيرات للزائرين المستهدفين مدتها خمس سنوات، وأنا واحد من الذين حصلوا على هذه التأشيرة عام 2015، وقمت بزيارة الولايات المتحدة بعد هذه التأشيرة حتى الآن ثلاث مرات. وأنتم تعرفون أنك حينما تنتقل من بيتك مسافراً فإنك لا بد أن تصرف مالاً للفندقة والأكل ووسائل التنقل والمشتريات وغيرها، الأهم من ذلك أنني حينما وصلت إلى مطار واشنطن في أوائل شهر مايو (أيار) الماضي وجدتُ رجال الجوازات يطلبون من حاملي التأشيرات السياحية مثلي ألا يصطفوا في الطابور وأنّ بإمكانهم إنهاء إجراءات الدخول عبر مكائن ذاتية، متجاوزين في ذلك حتى المواطنين الأميركيين الذين اصطفوا في الطابور. وحقيقة الأمر لم تستغرق مدة دخولي حتى دقائق معدودة، وفجأة وجدت نفسي أمام رجل الجمرك الذي سألني: هل تحمل أطعمة؟ فأجبته: نعم، فجُل أمتعتي تمر، قال موظف الجمرك مبتسما: رمضان! ابتسمت لأننا بالفعل كنا على أبوابه.
وفي رحلتي إلى أستراليا مُنحتُ تأشيرة لمدة سنتين وعرضت عليّ سفارة أستراليا في الرياض أن تمنحني خمس سنوات فاعتذرت لأنني لا أحتاج إليها، وحينما وصلت مطار ملبورن كانت إجراءاتي سهلة للغاية وكنت بصحبة ابني، وكان السؤال الذي وُجِّه إلينا محدداً وواضحاً: هل لديكم أطعمة؟ فكان الجواب: لا. وهذا السؤال قد تم التنبيه إليه من قبل مضيفي الطائرة، مشيرين إلى أن الأستراليين لا يسمحون بدخول الأطعمة إلى بلدهم.
تبادرت إليَّ كل هذه القصص حينما اطّلعت على مبادرة «طريق مكة»، وهي مبادرة أطلقتها السعودية لتسهيل رحلات الحجاج إلى مكة انطلاقاً من ماليزيا وإندونيسيا. وتهدف المبادرة إلى إنهاء إجراءات الحجاج القادمين من تلك البلدان في بلدانهم، وهذا يخلق راحة نفسية للمسافر خصوصاً إذا كان مسافراً إلى مكة للمرة الأولى لأنه سيدخل السعودية من أي منفذ بسهولة ويسر، فإجراءاته منتهية في بلدة، فلا نحتاج إلى تدقيق جوازه أو تفتيش أمتعته. أعتقد أننا بدأنا نسعى لتحقيق أهدافنا عبر مبادرات محددة مما يشجع الناس على القدوم إلينا، وهو ما يعزز اقتصادنا. وأتوقع أن مثل هؤلاء الموظفين بصفتهم عينة أولى قد تلقوا تدريباً كافياً للتعامل مع الحجاج عبر مبادرة طريق مكة التي من المتوقع أن تنتشر في جميع البلدان التي يقدم منها الحجاج، فأتمنى أن يُعطى الموظفون دورات تدريبية كافية لتحدد لهم الأشياء الممنوعة والمسموحة وترتب وفق الأولويات، فعلى سبيل المثال للحصر هناك أمران لا تهاون فيهما: الأول المخدرات، والآخر الأموال الكثيرة التي قد تُستخدم لأغراض غير مشروعة، أما بقية الأشياء فيُعطى لموظف مرونة كافية للتجاوز عنها.
من جماليات هذه المبادرة، غير عائدها الاقتصادي، أنها ستحقق للسعودية سمعة عالية في حسن التنظيم وتسهيل الإجراءات، ويكفي من هذه المبادرة توزيع علبة ماء زمزم على كل حاج. ولمن لا يعرف أهمية هذه القارورة لدى المسلمين، سأعيده إلى عام 1994 حيث زرت دولة مالي وكنت في ضيافة القائم بالأعمال السعودي آنذاك، وحينما وصلت إلى مطار باماكو، وهي عاصمة دولة مالي، كان في استقبالي القائم بالأعمال وكنت قد أحضرت معي أربعة كراتين من قوارير مياه زمزم سعد بها السفير، وفي صباح اليوم التالي وزّعها على وزراء الدولة المسلمين الذين هم على تماسٍّ مع السفارة السعودية. نقل إليَّ القائم بالأعمال امتنان الوزراء من هذه الهدية التي اعتبروها جميلة جداً. اعتبرتها مجاملة ظريفة من دبلوماسيين لدبلوماسي، ولكن في المساء نقل إليَّ أن عدداً من الوزراء الذين لم تصل إليهم مياه زمزم طلبوا منه هذه المياه، فأعطى بعضهم ما تبقى لديه لكنه لم يستطع تلبية رغبة الباقين، ولكني بمجرد أن وصلت إلى السعودية شحنت له كمية منها. ما قصدته أن الأشياء الجميلة لا يستلزم أن تكون كبيرة في قيمتها ولكنها قد تكون كبيرة في معناها، وهو ما جعلني أنسى مبادرة طريق مكة وأركز على مياه زمزم. ما أتمناه أن أرى بقية بلداننا العربية تطلق مبادرات مماثلة مثل «طريق الأقصر» بالنسبة إلى المصريين، و«طريق جبال أطلس» بالنسبة إلى المغاربة، وقِسْ على ذلك.