عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

من المنقذ... ومن الجلاد؟

لقي ما يزيد عن 200 «مهاجر»، أغلبهم من الأفارقة، حتفهم غرقاً أمام الشواطئ الليبية مطلع الأسبوع الماضي، في حين أنقذت قوارب خفر السواحل الليبية بضع مئات آخرين.
الأرقام مصدرها منظمة الأمم المتحدة للهجرة، والمنظمات غير الحكومية الأوروبية. الأخيرة يرسل بعضها سفن متطوعين إلى جنوب المتوسط لانتشال مهاجرين أشرفوا على الغرق. المنظمات نفسها «قدرت» عدد الموتى غرقاً بأكثر من ألف في ثلاثة أشهر، ليفوق العدد 1200.
الرقم قمة جبل الثلج العائم.
فالأرقام الرسمية تحسب بعدد شهادات الوفاة الصادرة بتوقيع طبيب فحص الجثة، ولا تشمل الأرقام من لم يتم التعرف عليهم، وأضعاف الأعداد من لم تنتشل جثثهم بعد من مياه المتوسط.
نشرت «الغارديان» اللندنية، الثلاثاء، تقريراً عن مصادر رسمية ليبية بإنقاذ 16 شخصاً فقط من قارب كان يحمل 130 شخصاً. وعدد الأشخاص في القارب تقديري.
فلا يعرف أحد بالضبط عدد من كانوا في القارب، إلا إذا لمحتهم سفينة مارة قبل أن يغرق القارب، وتنقل الأشخاص إلى سطحها. دائماً يفوق العدد الحمولة الآمنة التي صمم لها القارب.
كل هذه القوارب بلا استثناء يعدها مهربو البشر، وهم لا يصدرون أوراقاً رسمية بعدد المساكين الذين يضعونهم في القوارب، مقابل مبالغ يتقاضونها منهم تصل إلى عشرة آلاف دولار للشخص الواحد.
أضف إلى ذلك أن الأرقام (مصدر «الغارديان» المنظمة الدولية للهجرة) من منطقة قبالة السواحل الليبية فقط، ولا أرقام دقيقة عن الغارقين في مياه المتوسط الممتدة من شمال أفريقيا حتى مالطا وصقلية، أو من سواحل التهريب من تونس ومصر والمغرب، أو من الشواطئ التركية إلى اليونان، أو من شمال فرنسا إلى جنوب إنجلترا عبر القنال الإنجليزي (بحر المانش).
ومن حساب نسبة من تم إنقاذهم إلى تقدير عدد زملائهم الغرقى، لا نبالغ إذا قدرنا الرقم بقرابة خمسة عشر ضعف الرقم الرسمي.
وماذا عن قوارب لم تلمحها سفن الإنقاذ، وغرقت بركابها المزدحمين؟
تعتمد استراتيجية عصابات تهريب البشر على قوارب غير صالحة لقطع المسافة إلى أوروبا، وفور إشرافها على الغرق يتصل أحد المتعاونين معهم بسفن إنقاذ المتطوعين أو خفر سواحل أوروبية، زودوه بأرقام تليفونات المتطوعين في هذه السفن.
ضخامة الأرقام مأساة، لكن موت إنسان واحد غير مقبول في ظروف يمكن تجنبها (كحادثة إهمال، أو إغفال تطعيم طفل، أو تأخر وصول العلاج).
من المسؤول؟ مهربو البشر وحدهم؟
ماذا عن الجهات الرسمية، عمداً، أو إهمالاً، ودور المنظمات غير الحكومية؟
رغم اعتقال بعض المهربين، وقباطنة سفن (ومعظم التهم إهمال أو مخالفة لوائح الإبحار والملاحة)، فلم نرَ تحقيقاً عن دور بيروقراطية الاتحاد الأوروبي، والمنظمات غير الحكومية، بإرسالها القوارب أمام ساحل ليبيا، في خلق مناخ جذب للمهاجرين تستغله عصابات تهريب البشر. ربما أقل التهم هي الإهمال المتسبب في القتل، بالمضي في سياسة أدت إلى موت الآلاف غرقاً، رغم التحذير المسبق من نتائج هذه السياسة.
أسئلة متعددة. هل ساهمت هذه المنظمات في إنقاذ الأرواح؟ أم أدت تدخلاتها إلى غرق المزيد؟ وهل تتحمل جزءاً من المسؤولية عن فقدان هؤلاء المساكين لأرواحهم؟
بالنسبة لدور الاتحاد الأوروبي، نرى محاولات إبعاد التهمة عن البيروقراطية الأوروبية إلى جهات أخرى.
فبدلاً من فحص دور أوروبا، انتقد الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون منظمة «لايفلاين» غير الحكومية ومركزها ألمانيا.
وزير خارجية إيطاليا، أنزو مافيرو ميلانيزي، اتهم المنظمة بمساعدة مهربي البشر. وألقى القبض في مالطا على قبطان السفينة التي تملكها، وتحمل الاسم نفسه «لايفلاين». التهمة تعريض الأرواح للخطر ومخالفة التعليمات من الموانئ التي رفضت رسو السفينة بدخوله المياه الإقليمية لمالطا وإيطاليا.
السفينة كانت التقطت مجموعة من المهاجرين الأفارقة من المياه على مسافة 20 كيلومتراً من الساحل الليبي بعد غرق قواربهم المطاطية والصغيرة (قوارب غير صالحة للإبحار في المياه الدولية وتحمل أضعاف الأعداد التي صممت لها). وبدلاً من تسليمهم إلى قوارب خفر السواحل الليبية في المياه نفسها، لإيصالهم لبر الأمان، كما حدث مع مهاجري الأسبوع الماضي، أبحرت «لايفلاين» بهم شمالاً.
المعتاد في لوائح الإبحار الدولية عند انتشال ركاب قوارب أو سفن غارقة أن تبحر بهم سفينة الإنقاذ إلى أقرب مرفأ آمن.
وربما تابع القراء كيف ظلت السفينة تبحر لأيام طويلة، حيث رفضت السلطات الإيطالية رسوها، ورفضت سلطات مالطا أيضاً الإذن بالرسو، وبعد عدة أيام في البحر وسوء صحة عدد من المهاجرين سمحت مالطا برسو السفينة بدوافع إنسانية.
الانتقادات لسياسة الاتحاد الأوروبي أنها أنشأت مؤسسات، يتقاضى مديروها مرتبات باهظة، لمساعدة المهاجرين غير الشرعيين بعد وصولهم أوروبا، بدل توجيه الاستثمارات والمساعدات المادية إلى بلدانهم في مشاريع تعالج أسباب دفعهم للهجرة أصلاً.
ولأن البيروقراطية آلة تلقائية (أوتوماتيكية) النمو وبقاء دورانها يصبح غاية لا وسيلة، فإن مؤسسات المهاجرين تحولت إلى صناعة يتطلب بقاؤها استمرار ظاهرة تدفق المهاجرين فغّرق المزيد منهم.
الرأي العام في بلدان تعاني من ضغوط مهاجري القوارب الغارقة، كإيطاليا واليونان ومالطا وإسبانيا، يتهم منظمات مثل «لايفلاين» بأنها أصبحت «تاكسي بحري» المرحلة الثالثة من رحلة الهجرة المميتة التي تدر الملايين على عصابات تهريب البشر. ملايين يتحملها دافعو الضرائب الأوربيون، بينما يتحمل المهاجرون الأفارقة ثمناً أكثر فداحة، وهو آلاف من أرواحهم (لم تحصَ بعد) تزهق في الخطوة الأولى من الرحلة، عابرين صحراء بلدان الساحل إلى شواطئ شمال أفريقيا، خصوصاً ليبيا. المرحلة الثانية نحو 25 ميلاً قبالة الساحل الليبي، وهو أقصى ما يمكن أن تصل إليه القوارب المزدحمة قبل غرقها، ويرسل مساعدو المهربين استغاثة بالتليفون من القارب إلى سفن الإنقاذ.
في مقابلة مع «بي بي سي»، الاثنين، برر رئيس منظمة «لايفلاين» عدم توصيل سفينته المهاجرين لموانئ ليبيا أو تونس الأقرب بـ«أوضاع حقوق الإنسان في ليبيا»، مفضلاً تعريض الناجين من الغرق لمزيد من المعاناة لأيام طويلة متجهاً لإيطاليا. اعتراف بتجاوزه المهمة «الإنسانية» التي تجمع منظمته التبرعات، وتحصل على دعم دولي من أجلها، إلى قضية سياسية.
ولأن العالم اليوم قرية صغير معلوماتياً، فإن عصابات تهريب البشر تتعمد نشر المعلومات المبالغ فيه عن وجود القوارب وسفن الإنقاذ قبالة السواحل الليبية، وتتزايد أعداد المهاجرين، وتتنامى معها أعداد الغرقى في مفارقة تراجيدية، يهدي فيها من يلعب دور المنقذ أدوات الإعدام إلى ممثل دور الجلاد.