كاس ر. سانستاين
TT

أميركا: حرية التعبير تفصل بين اليمين واليسار

يبدو أن الناس، في ما يتعلق بحرية التعبير، ينجذبون بشكل متزايد إلى السرد البسيط. وكان أصحاب تيار اليسار يفضلون حرية التعبير، ولكن الآن، لم يعد الأمر كذلك. أما أصحاب تيار اليمين فقد اعتادوا على كراهية حرية التعبير، والآن صاروا جميعاً يفضلونها كثيراً.
غير أن هذا السرد خاطئ في أغلب مناحيه. بل يمكن وصفه بالفوضى في واقع الأمر. وللوقوف على الأسباب، نحن في حاجة إلى مراجعة دروس التاريخ.
في القانون الدستوري الأميركي، كانت أكثر معارك حرية التعبير ذات المغزى قد نشبت في خمسينات وستينات وحتى أوائل سبعينات القرن الماضي. وكانت تلك المعارك الحوارية تميل إلى مشاركة المنشقين السياسيين، والمدافعين عن الحقوق المدنية، والمعارضين لحرب فيتنام، والاشتراكيين والشيوعيين على حد سواء.
وعبر المعارك الكبرى الثلاث، كان أصحاب تيار اليسار يجادلون بغية تحقيق الحماية الواسعة لحرية التعبير السياسي.
أولاً، قالوا إنه ما لم تتمكن الحكومة من إظهار «الخطر الحقيقي والواضح»، ينبغي السماح للمعارضين بقول ما يروق لهم. ولاح شبح المكارثية في أفق الأحداث.
وفي عام 1969، تبنت المحكمة العليا هذه الحجة في قضية (براندنبرغ ضد أوهايو). وتضمنت القضية جماعة «كو كلوكس كلان» اليمينية المتطرفة، ولكن علم الجميع أن المبدأ من شأنه حماية المنشقين من كل الأطياف.
وكانت المعركة الكبرى الثانية لتلك الفترة فقد انطوت على استخدام قانون التشهير. وقال أنصار حرية التعبير وأغلبهم من تيار اليسار، أنه ينبغي للمعارضين أن يكون لهم حق راسخ في انتقاد المسؤولين الحكوميين، حتى وإن تبين أن تلك الانتقادات قد اشتملت على تصريحات مزيفة بشأن الحقائق. وفي عام 1964، قبلت المحكمة العليا الأميركية تلك الحجة في قضية «نيويورك تايمز ضد سوليفان».
وتضمنت المعركة الجدالية الثالثة «القيود المسبقة» على حرية التعبير، وهذا يعني استخدام التدابير وإجراءات الترخيص للحيلولة دون حرية التعبير. وقال أنصار حرية التعبير، وأغلبهم أيضاً من تيار اليسار، إن القيود المسبقة كانت دوماً غير مقبولة، حتى عندما زعمت الحكومة أن الأمن القومي للبلاد في خطر. وفي قضية «مستندات البنتاغون»، والتي صدر الحكم فيها عام 1971، قبلت المحكمة العليا الأميركية تلك الحجة كذلك.
وتساعد القرارات الثلاثة، والتي أصبحت مقبولة الآن وعلى نطاق واسع من قبل جميع الأطراف، على تحديد موقف تيار اليسار منذ فترة طويلة بشأن حرية التعبير. وقبل كل شيء، ركزوا على حماية الحوار العام، وعلى السماح للمعارضين من الأطياف كافة بأن يقولوا ما يروق لهم.
وبالإشارة إلى مخاطر وقوع الأضرار الحقيقية، والحاجة إلى إرساء نوع من التوازن، كان أصحاب تيار اليمين كثيراً ما يعارضون ذلك. وكانت حججهم في ذلك معقولة إلى حد ما بأن حرية التعبير يمكن أن تكون خطيرة حتى وإن لم يكن الضرر المتمخض عنها وشيكاً؛ وأن خطاب التشهير من شأنه أن يسفر عن أضرار حقيقية؛ وأن الأمن القومي للبلاد كان على محك المخاطر الكبيرة في قضية «مستندات البنتاغون».
وبمعاودة تسليط الأضواء على معارك حرية التعبير الكبيرة التي وقعت خلال العقدين الماضيين، نجد أن العديد منها قد اشتمل على مسألتين: القيود على حملات التمويل، والخطاب التجاري.
ويختلف أصحاب العقول السليمة بشأن ما إذا كانت القيود على الإنفاق السياسي تنتهك مبدأ حرية التعبير في شيء. ولكنّ أنصار تيار اليسار لا يُعتبرون منافقين عندما يسجلون خلافهم مع قرار «المواطنون المتحدون» لعام 2010، والذي يحمي حق المؤسسات والشركات في إنفاق الأموال المستقلة غير المحدودة على الحملات.
ولطالما أصرّ الليبراليون على أن نفقات الشركات والمبالغ المالية الطائلة في حملات الانتخابات على نطاقها الأوسع، تحوّل اللامساواة الاقتصادية إلى لامساواة سياسية، في انتهاك واضح وصارخ للمُثُل الديمقراطية. وعبر طرح هذه الحجة، فهم لم يغيِّروا من آرائهم السابقة أو يتراجعوا عن التزاماتهم المعلنة.
وحتى عام 1976، عندما قضت المحكمة العليا بحماية الإعلان عن أسعار الأدوية الموصوفة في قضية مجلس الصيدلة بولاية فرجينيا، فإنها لم تؤكد أبداً أن التعديل الدستوري الأول يوفر الحماية للإعلانات التجارية. واستغلت المؤسسات التجارية إصدار هذا القرار للاحتجاج بأن الخطاب التجاري يستحق أن يحظى بنفس الحماية المتوفرة للخطاب السياسي، وأيضاً لمهاجمة القيود الرقابية والتنظيمية من الأنواع والأشكال كافة، مثل ذلك الشرط الصادر عن لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، بشأن وجوب كشف الشركات عن استخدامها لما يُعرف بـ«معادن الصراع»، وهي المعادن المستخدمة في تمويل الفظائع الإنسانية الجماعية.
وعندما تقدمت القاضية إيلينا كاغان بشكوى حول أن أغلبية المحكمة العليا تعمل على تسليح التعديل الدستوري الأول، فهي كانت تقصد الاعتراض على الاستغلال الجديد لمبدأ حرية التعبير في تحدٍّ لمجموعة متنوعة من القواعد المصممة بالأساس لحماية المستهلكين والموظفين ومن سواهم.
وبالنظر، على سبيل المثال، إلى شروط الإفصاح عن الرهون العقارية والبطاقات الائتمانية؛ وتحذيرات المخاطر للعمال، ووضع البيانات الغذائية على الأطعمة. ومع تطور القانون الدستوري في الآونة الراهنة فإن كل هذه القواعد ضعيفة وواهنة للغاية.
وربما هذا أمر جيد. وربما تنبغي مساءلتهم بكل جدية وصرامة على أسس دستورية متينة. ولكن من الخطأ القول إن أصحاب تيار اليسار قد تحولت وجهاتهم بطريقة ما، أو أنهم قد فقدوا حماسهم المتقد للدفاع عن حرية التعبير. على مدى عقود، كان مفهومهم عن حرية التعبير يركز على الخطاب السياسي وحماية المنشقين والمعارضين السياسيين.
وتأكيداً للقول، بعض الناس من الأحرار الحقيقيين في مسألة الدفاع عن حرية التعبير، هم يتبنون القرارات المُحددة للعصر السابق، ويودون أيضاً توفير الحماية لإنفاقات الشركات والخطاب التجاري. ومما يؤسف له، أن بعض أعضاء تيار اليسار، ولا سيما الأكاديميون منهم، أصبحوا على استعداد للتخلي عن مبدأ حرية التعبير عندما يشعرون بالإهانة مما ينبغي على الناس قوله.
لكن نقطة النقاش الأوسع هي أن الخطاب المنتشر خاطئ. ولم تتحول توجهات اليمين أو اليسار في حقيقة الأمر. ولا تبدو معارك حرية التعبير الحالية كما كان عليه الأمر في الخمسينات والستينات.
وليس ذلك من النفاق في شيء، وهو لا يثير الدهشة كذلك، فاليساريون، الذين لطالما ركزوا على حماية الخطاب السياسي والمعارضة، ليسوا متحمسين بدرجة كبيرة لحماية الإعلانات التجارية، أو بشأن الإطاحة بمتطلبات وشروط الإفصاح من لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»