إميل أمين
كاتب مصري
TT

جولة كوشنر والثوابت العربية

كان للمشهد الفلسطيني - الإسرائيلي أن يعود بقوة على مائدة الحديث الدولي والإقليمي، بعد زيارة جاريد كوشنر وجيسون غرينبلات، مبعوثي الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المنطقة، للتهيئة للصفقة التي كثرت من حولها التوقعات ورفض الصهر أن يشير إلى بنودها ونصوصها، ما ألقى بمزيد من الغموض على المشهد.
على أن الحديث الذي أدلى به السيد كوشنر لصحيفة «القدس» الفلسطينية أظهر حقيقة واضحة ومؤكدة، وهي إجماع الزعماء والقادة العرب وفي المقدمة منهم المملكة العربية السعودية ومصر والأردن على أمر واحد، هو التمسك بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
حسناً تحدث كوشنر عن صفقة «تحترم كرامة الفلسطينيين» وتضع حلاً واقعياً للقضايا التي تمّت مناقشتها على مدى عقود. لكن السؤال الحيوي هو عن موقع هذه الصفقة من قرار ترمب وضع العربة أمام الحصان بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، واعتبار «زهرة المدائن» عاصمة موحدة لإسرائيل.
يعنّ للمرء التساؤل بعد أكثر من عقد ونصف عقد من الزمان على طرح المبادرة للعربية للسلام والتي قدمتها المملكة العربية السعودية عام 2002، عما إذا كان هناك، في أي لحظة زمنية منذ 1948 حتى الساعة، حل أنفع وأرفع للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من تلك المبادرة؟
يُخيّل للمرء أنه لو كانت إسرائيل قد قبلت المبادرة التي أطلقها ولي العهد (وقتها) الأمير عبد الله بن عبد العزيز ومضت في طريق الموافقة على إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود يونيو (حزيران) 1967، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين، وفي المقابل اعتبار النزاع العربي - الإسرائيلي منتهياً، وبدء مرحلة إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، لَكَان شكل المنطقة قد تغير جملةً وتفصيلاً، ولَأضحى السلام حقيقة واقعة، ولَجَنَت الأجيال العربية والإسرائيلية ثماره الناضجة، لكن التسويف الإسرائيلي يجد متعة في التلاعب بقضية السلام.
إذا كانت واشنطن جادة بالفعل في أن تنشر خطة سلام حقيقية «سيعجب بها الشعب الفلسطيني»، كما قال كوشنر، فليس عليها سوى إعادة النظر بجدية مطلقة في المبادرة العربية للسلام من جهة، ومراجعة مقررات القمة العربية غير العادية التي انعقدت في القاهرة في يونيو 1996، وأكدت أن السلام العادل والشامل خيار استراتيجي للدول العربية يتحقق في ظل الشرعية الدولية، ويستوجب التزاماً مقابلاً تؤكده إسرائيل في هذا الصدد.
السلام الحقيقي يقوم على احترام الحقوق والوعي برؤية العرب والمسلمين للقدس بوصفها مدينة تتجاوز الملامح والمعالم الجغرافية لمدن العالم، مدينة ذات مسحة دينية وإيمانية، تعتبرها قرارات الشرعية الدولية مدينة واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي. وخطوة نقل السفارة الأميركية إلى المدينة تنتمي إلى طريق منافٍ ومجافٍ لأطروحات الحل التي قدمتها المبادرة العربية للسلام، ناهيك بخطوات مثل القطع التدريجي للمساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية، والتضييق على «أبو مازن» إلى حد دفعه إلى دائرة ضيقة، وصولاً إلى تصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا»، وجميعها تقوّض مشهد السلام وتعجّل بانسداد أفق تاريخي غير مسبوق.
أثمرت الجولة الأخيرة للمبعوثين الأميركيين عن تأكيد وحدةٍ عضويةٍ عربية - إسلامية - مسيحية، إذ تقود المملكة العربية السعودية الموقف الراسخ والداعم للقضية الفلسطينية بوصفها «قضيتنا الأولى وستظل كذلك»، كما قال خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز في «قمة القدس» في أبريل (نيسان) الماضي، حين أشار إلى أنها «ستبقى كذلك حتى حصول الشعب الفلسطيني على جميع حقوقه المشروعة وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية».
وفي موازاة هذا الموقف العربي، تتعالى الأصوات الدولية في الأيام الأخيرة حاملة تأييداً وتعضيداً للموقف العربي، ومنها موقف بابا الفاتيكان البابا فرنسيس الذي صرح في 22 من الشهر الجاري بضرورة الحفاظ على هوية المدينة المقدسة، في تأكيدٍ لرفض فكرة تهويد القدس التي رفضها أسلافه منذ زمن البابا بيوس العاشر (1835 - 1914) في زمن تيودور هيرتزل.
رائعة جداً إلى حدّ العظمة تلك المقترحات التي حملها السيد كوشنر للتنمية الإنسانية لقطاع غزة والضفة، وإتاحة فرص أفضل للحياة الإنسانية الكريمة والخلاقة، ولا أحد يختلف معه في أن «الشعوب تمشي على بطونها»، وليس الجيوش فقط كما قال نابليون بونابرت من قبل. لكن عند لحظة بعينها لا تحيا الأمم بالخبز وحده، وتتناسى حقائق الأشياء وطبائع الأمور.
لا يفيد إسرائيل البقاء إلى الأبد على حد السيف، اعتماداً على دعم مطلق ولا نهائي أميركي -شعبوي ونخبوي- لمواقفها المتعنتة. فهذا أمر من قبيل الحلم غير الواقعي. والخلاصة أن المبادرة العربية للسلام هي الضامن الوحيد لحل أزمة صراع طال، ومرشح لأن يستمر عقوداً، ما لم يدرك أحد في تل أبيب وواشنطن ما ينبغي إدراكه.