عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

توظيف القانون في غير محله

بيلي كلادويل، ابن الثانية عشرة أثار قضية واسعة النقاش والجدل في البرلمان، والصحافة والرأي العام البريطاني، مصاب بحالة فريدة من مرض الصرع، أثارت بدورها جدلاً حول العلاقة بين القانون والطب، وبين الصحة والقانون، وبين ما يعتبره المجتمع أخلاقياً وكيف يتغير المقياس عبر الأجيال.
بيلي يصاب بنوبات قد تصل إلى مائة في اليوم الواحد مما يهدد حياته.
بالنسبة للأمراض العصبية هناك ما يعرف طبياً بـ«العلاج» أي التعامل مع الحالة المرضية بمحاولة تخفيف الآثار الضارة لأعراضها حتى يتوصل علماء الطب إلى اختراع دواء لشفاء الحالة أي التخلص من العلة نهائياً.
حالة بيلي وبضع مئات مثله لا شفاء نهائياً منها وإنما العلاج بالتعامل مع الحالة، وهي التحكم في أعراضها التي تتسبب بضرر للمريض، فحالات نوبات تشنج الصرع مثلاً تؤثر على الجهازين العصبي والتنفسي والعضلات وقد تؤدي إلى سكتة قلبية أو دماغية. وكثير من الحالات التي تصيب الجهاز العصبي لا شفاء منها وإنما العلاج بالتعامل مع الحالة. أم بيلي، شارلوت كلادويل، نبهت الصحافة وقادت الحملة، اكتشفت أن الزيت المركز من خلاصة نبات القنب (cannabis وهي عشبة الحشيش) يتعامل مع الأعراض بالتحكم مؤقتاً في أطراف الأعصاب، وبالتالي قللت من النوبات من العشرات في اليوم إلى واحدة كل أسبوعين.
المشكلة أن القنب وكل مشتقاته، خاصة الزيت المركز، ضمن قائمة «المخدرات» الممنوعة قانونياً هي مصنفة: أ، ب، ج، حسب تأثيرها الضار، وحسب العقوبة قي قانون الجنايات في المملكة المتحدة. وهناك بالطبع فارق في تقدير المحاكم في فرض العقوبة، بين تهريبها، وتعاطيها والاتجار بها.
المفارقة أن معظم مهدئات الآلام وأدوية التخدير مستخلصة من الأفيون ومن هذه النباتات، لكنها عقاقير طبية تنقى في المعامل، أما المخدرات في شكلها الطبيعي أو المركز كزيت القنب في قوائم المخدرات فيفسر دخول وزارة الداخلية على الخط مع وزارة الصحة.
الأم شارلوت كلادويل لم تجد وسيلة قانونية تمكن طبيباً من كتابة روشتة لصرف العلاج غير المألوف. كما أن المجتمع لم يتقبل بعد إخراج المخدرات من قائمة الممنوعات.
زيت القنب يباع بلا مخالفة قانونية في صيدليات ومراكز للعلاج الطبيعي في بلدان مثل هولندا وكندا. وكندا أنهت تجريم مخدرات كالماريونا والقنب وسبقتها هولندا بسنوات طويلة.
اصطحبت الأم الصبي إلى كندا، وتحسنت حالته، وعند عودة الأسرة إلى لندن، صادر ضباط الحدود في هيثرو الزيت الذي أحضرته تشارلوت. أصيب بيلي بعدة نوبات في الليلة نفسها نقل على أثرها للمستشفى.
اتصلت شارلوت بالصحافة بكل أشكالها، فنصبت سيرك الخيمة بالميكروفونات والكاميرات على باب المستشفى وأثير الجدل في كل الأوساط.
مثال آخر للقراء على الخدمات التي تقدمها صحافة حرة مستقلة للمجتمع، رغم أنها صحافة تجارية تماماً غرضها الربح من توزيع الصحف وزيادة عدد المشاهدين (باستثناء البي بي سي الممولة من الشعب لكنها لا تستطيع تجاهل الأمر).
وعثرت الصحافة على أم أخرى، تدعى هَنَا ديكون، وكانت قد قابلت رئيسة الوزراء تيريزا ماي التي وعدتها بإيجاد طريقة لصرف زيت القنب إلى ابنها ألفريد، ابن السادسة، وحالته مثل حالة بيلي كلادويل. ورغم الوعد مضى ثلاثة أشهر والطلب ضائع في متاهة البيروقراطية؛ مسؤولو الصحة يقولون المشكلة مع وزارة الداخلية، فالعلاج مخدرات وليس في قوائم الأدوية الطبية. الداخلية تعيد الأوراق إلى الصحة ويقولون أيدينا مقيدة ولا نعرف قانوناً يوفر العلاج، ربما روشتة طبيب. ولا تجد الأم المسكينة طبيباً يغامر بسمعته بإصدار روشتة مخدرات ممنوعة. واستمر الجدل طوال الأسبوع ليس فقط بين الذين ينادون بتغيير كل شيء في المجتمع من أجل التغيير لا حسب مضمون التغيير، وبين التقليديين المحافظين الذين يخشون أن يقوض التغيير الأساسيات التي يرتكز عليها المجتمع.
سمعنا تقليديين يطالبون برفع القنب ومشتقاته من قائمة المحظورات وتحديثيين يريدون إبقاءه ضمن المحظورات.
تدخل وزير الداخلية ساجد جويد ليستخدم صلاحيات استثنائية تحت قوانين الطوارئ والحرب للإفراج عن زيت القنب المحتجز في نقطة بوليس هيثرو وإعادته لأم بيلي.
المفارقة أن القانون الوحيد الذي منح وزير الداخلية (الصحة خارج اختصاصه) صلاحيات لعلاج الطفل لم يكن قانون صحة أو تعامل مع المخدرات، بل قانون خصص لحماية المجتمع أثناء الحروب ومواجهة الإرهاب.
مع ارتفاع صوت المطالبين بحذو حذو كندا ورفع الحظر عن المخدرات، يحذر العقلاء من التسرع ويقولون فلنتعامل مع كل حالة طبية على أنها استثناء لا قاعدة بالتساهل في استخدام المخدرات.
العقلاء يطالبون بالتريث لأن التسرع بإصدار قوانين بلا دراسة كافية يؤدي إلى سلبيات غير مقصودة.
قانون تنظيم المرور صدر بقصد توفير الأمان للمشاة، وللمسافرين بالسيارات والباصات وتقليل الحوادث وتسهيل المرور في الطرق.
ورغم مساهمة القانون في تقليل الحوادث والأضرار الجسيمة في حالة التصادم فإن البلديات وظفت القانون في 98 في المائة من الحالات لغرض واحد، وهو جمع الأموال وملء خزاناتها من تحصيل المخالفات من سائقي السيارات، ومعظمها مخالفات الانتظار، بينما زادت اختناقات المرور.
قانون التغيير المناخي الذي أصدرته حكومة العمال بزعامة توني بلير لم يفلح حتى الآن في عكس التدهور المستمر في الأجواء أو تنقية هواء المدن والشوارع، حيث زادت حالات الربو والحساسية وأمراض الجهاز التنفسي. وتحول القانون إلى أداة لتحقيق الأرباح من فرض رسوم على الوقود وفواتير الكهرباء في المنازل.
أما الأجزاء من القانون، التي منحت لعمد المدن الكبرى، مثل لندن، صلاحيات تنقية الهواء، فتحولت إلى مصدر تمويل بفرض رسوم على سائقي السيارات.
أما قانون مكافحة الإرهاب فلم يستخدم في المحاكم لإدانة متهم بالإرهاب إلا مرتين منذ صدوره في 2003، بينما تمت الإدانة حسب القوانين الجنائية العادية في بقية القضايا. قانون الإرهاب يوظفه البوليس لحجز المتهم بضعة أيام إضافية لا يتيحها القانون العادي.
أما البلديات فتوظف صلاحيات تحت قانون الإرهاب للتجسس على السكان الذين يضعون أكياس القمامة في غير أماكنها الصحيحة أو يغيرون عنوان المسكن عند أقارب لتسجيل الأطفال في مدارس مرغوبة، ولم تستخدمه بلدية واحدة منذ صدوره لكشف مخطط إرهابي واحد.
والدرس باختصار أن قانوناً صدر لغرض ما لا يعني أنه لن يوظف في غير محله للإضرار بالناس بدلاً من حمايتهم، خاصة عندما تتسع الهوة بين الثقافة الاجتماعية المعاصرة ونص القانون الجامد.