تيلر كوين
TT

بين المنزلتين... الاستبداد والديمقراطية

«ما التقدم الكبير المحرَز خلال العقدين الماضيين؟»، سؤال من أكثر الأسئلة المطروحة للنقاش في دائرة اهتماماتي. وغلب الهاتف الذكي في معظم الأحيان على المنتجات المرشحة لذلك، في حين أن «غوغل»، و«فيسبوك»، وغيرهما لديها ممن يؤيدونها أيضاً. ومع ذلك، فإننا نادراً ما نتحدث عن واحد من أهم التطورات، وربما لأنه يثير قضايا سياسية لا تبعث على الارتياح: أساليب واستراتيجيات الحكم للأنظمة الاستبدادية التي أصبحت أكثر فاعلية وكفاءة.
أذكر في سبعينات القرن الماضي، عندما كان هناك القليل من الدول الديمقراطية وكانت الشيوعية من الآفات الدولية الرئيسية. وبصرف النظر تماماً عما كان يُسمى وقتها العالم الحر، الذي تقوده الولايات المتحدة وأقرب حلفائها، كان أغلب البلدان محكومة بأنظمة استبدادية مروعة لا مثيل لها. وكان الناس في الاتحاد السوفياتي البائد يصطفّون في طوابير طويلة لأجل الحصول على السلع الاستهلاكية الأساسية، هذا إن كانت متاحة على أيّ حال، وكانوا متوارين خلف الستار السياسي الحديدي الذي حال بينهم وبين الفرار إلى الغرب. وكانت الصين من الدول الفقيرة، وكانت قد خرجت لتوّها من مجاعة كبيرة. وكانت إثيوبيا مثالاً دولياً للأطفال المصابين بالهزال، وسوء التغذية، والإشراف على الموت.
ومنذ ذلك الوقت، أصبحت أنظمة الحكم في هذه البلدان أفضل كثيراً، حتى مع أن الصين، وإثيوبيا، وروسيا لم تتحول إلى الديمقراطية بالمفهوم الغربي. والصين، على سبيل المثال، قامت ببناء واحدة من أبرع معجزات النمو الاقتصادي في العالم على الإطلاق، مع الحزب الشيوعي الذي لا يزال قابضاً على السلطة في البلاد. وتحاول إثيوبيا الخروج من بعض سنوات النمو الاقتصادي ذات الأرقام المزدوجة، وهي تعمل على تطوير الصناعة التحويلية في البلاد. وعلى الرغم من أن روسيا تحكم بقبضة من حديد، غير أن السلع الاستهلاكية باتت متاحة اليوم وعلى نطاق واسع، وأغلب المواطنين الروس يحظون بحرية السفر إلى أي مكان متى شاءوا.
فما الذي أدى إلى هذه التغييرات المفيدة؟ في حقبة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانت الرؤية الشائعة تدور حول أنه إن تحررت الأنظمة الاستبدادية أو الشمولية فسوف يسفر ذلك عن نهاية أكيدة لأنظمة الحكم. وصار انهيار الاتحاد السوفياتي والنظم الشيوعية في أوروبا الشرقية في ما بين 1989 و1992 مثالاً يتسق اتساقاً تاماً مع هذا المنظور، إذ تسببت البيروسترويكا (أو إعادة الهيكلة الاقتصادية)، بالإضافة إلى التخفيف من قيود السفر إلى الخارج، في انهيار تلك الأنظمة.
وكان الابتكار الكبير في عالم السلطات الاستبدادية على النحو التالي: إذ خلص القادة الاستبداديون اللاحقون، إلى أساليب جديدة لتحرير الأنظمة والاستمرار على رأس السلطة في نفس الوقت. والأنباء السارة كانت أن المواطنين الذين يعيشون في ظل الحكومات السلطوية لديهم حياة أفضل بكثير من ذي قبل. وكانت الأنباء السيئة المناظرة هي أن الاستبداد صار ينجح ويعمل بصورة أفضل مما كانت عليه الأمور من قبل، وربما بوتيرة أكثر استدامة. وفكرة تلاشي وزوال الحكومة الاستبدادية، سواء من الناحية العملية أو كمنافس آيديولوجي للفلسفة الليبرالية الغربية، لم تعد ممكنة بكل بساطة.
إذن، كيف تمكّنت الحكومات السلطوية من تحقيق هذا الانتقال في اتجاه الاستقرار والتحرر الفعال في الواقع؟ أظهرت سنغافورة في سنواتها الأولى أنه يمكن القيام بذلك، حيث رسخ رئيس الوزراء المؤسس للبلاد، لي كوان يو، من الإصلاحات المعززة للنمو الاقتصادي، والمؤيدة للأعمال التجارية تلك التي عززت من قبضة الحزب الحاكم على السلطة في البلاد. ومنذ ذلك الوقت، انتقلت سنغافورة إلى نظام حكم أكثر ميلاً إلى الديمقراطية، غير أن البلدان الأخرى تعلمت الدرس الأوسع، بمعنى أن التحرر يمكن أن يكون استراتيجياً.
والتطور الثاني عندما أدرك الزعماء السلطويون أن الحظر المطلق على حرية التعبير عاد بنتائج عكسية، كما أنهم تعلموا كيفية إدارة الحلول الوسط في ذلك. وأصبح السماح بالحرية الجزئية للتعبير مفيداً كصمام للأمان، إذ يتيح تحديد شخصيات المنشقين الرئيسيين عن النظام الحاكم ووضعهم قيد المراقبة، كما أن الحظر المطلق للتعبير يميل إلى تدمير الاقتصاد وتثبيط الاستثمار، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الحكومة للشعبية المطلوبة. وفي الأثناء ذاتها، يمكن للحكومة الاستبدادية أن تشن حملة قمع موجعة على الأفكار المهددة عندما تثور الضرورة إلى ذلك.
وكانت استطلاعات الرأي بالأساليب العلمية من التطورات الأخرى المحرزة في البلدان الاستبدادية. وفي عام 1987، أجرى معهد إصلاح النظام الاقتصادي في الصين أول استطلاع للرأي العام في البلاد، وهو من الأحداث الكبيرة وقتذاك. وفي ظل الرئيس ماو، على النقيض من ذلك، كان الدافع هو نشر الأنباء السارة فقط. أما في عقد تسعينات القرن الماضي، رغم ذلك، شهدت استطلاعات الرأي في الصين طفرة كبيرة وأصبحت تتسم بنزعة علمية أكبر.
وفي هذه الأيام، يراقب الحزب الشيوعي الرأي العام الصيني عن كثب، للوقوف على ما يسبب قلق الناس أو غضبهم (مثل: إعادة التوطين الجبري، والتلوث)، حتى يمكن العمل على التخفيف من حدة هذه المشكلات، أو على الأقل تتمكن الحكومة من التلطيف من مستويات فشلها في ذلك بصورة مناسبة. وتعلم الحكومة الصينية جيداً ما القضايا التي تحظى بشعبية كبيرة. وفي نهاية اليوم، لا يزال الحزب يفعل ما يعتقد أنه يصب في الصالح العام، ولكنه تخلى تماماً عن نزعته الجنونية في القول بأن الحكومة الصينية، على مختلف السياقات والأبعاد، هي أكثر استجابةً للرأي العام في البلاد بأكثر من الكونغرس في الولايات المتحدة الأميركية.
وإنني، من جانبي، أودّ فقط أن أعيش في ظل دولة ديمقراطية نابضة بالحياة. وتصنع البلدان الديمقراطية الكثير من أجل حماية حقوق الإنسان، وهي تتجنب تماماً النتائج السيئة للغاية للطغيان والاستبداد وبسهولة أكبر من غيرها، كما أنها تتعامل مع الخلافات السياسية بسلاسة أكبر.
وعلى الرغم من هذه الولاءات، لا يمكنني تجاهل التحول النسبي في الفاعلية التي تحققت خلال العقود القليلة الماضية، حيث أحرزت الحكومات السلطوية خطوات كبيرة ومبتكرة إلى الأمام. وفي خاتمة المطاف، لا يسعني إلا الإشارة إلى أن ابتكارات الحكومة الأميركية لم تكن فعالة إلى حد كبير، وهذا من بين الأسباب التي تجعل الليبرالية في تراجع داخل الولايات المتحدة، ويمتد الأمر أيضاً ليطال العاصمة واشنطن، التي تتأزم أمورها على مسار طويل ومتباطئ من الإنتاجية المتدنية.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»