حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

هل نفد الوقت؟

كان لافتاً في الأيام الماضية التحرك العسكري لوحدات من الشرطة العسكرية الروسية في سوريا. تعتقل الذين يعفشون المنازل من شبيحة الجيش السوري والميليشيات الدائرة في فلكه، وتزيل الألغام من بعض ضواحي دمشق، وتنتشر في الغوطتين والقلمون حتى في ريفي حمص الجنوبي والغربي، وتقيم الحواجز العسكرية، وتتدخل في حركة وتمركز ميليشيات الحرس الثوري، ومنها ميليشيا «حزب الله». إشارات معبرة مفادها أن الزمن يتغير بسرعة، وأن ساعة الحقيقة لبقاء هذه الميليشيات قد حانت. وبمعزل عن إعلان زعيم «حزب الله» أنه لو اجتمع العالم ضده فلا انسحاب من سوريا إلاّ بقرار من بشار الأسد رأس النظام السوري! فإن نصر الله في حديثه أكد أن الانسحاب مطروح على الطاولة ولو قال إنه يرفضه، وفي التوقيت نفسه تقريباً كشفت وكالة «إيرنا» (30 مايو/ أيار) عن بعض ما يحدث ميدانياً بقولها «هاجمت إسرائيل مواقع تخص إيران و(حزب الله) في سوريا دون أدنى عوائق أو صعوبة، استشهد الكثير من رجالنا وأصيب عدد كبير، ومع هذا قررت موسكو تجاهل هذا العدوان والتزمت الصمت».
قبل ذلك، قال وزير الحرب الإسرائيلي ليبرمان عن مباحثاته في موسكو، إن هناك تفهماً روسياً لاحتياجات إسرائيل الأمنية (...)، موضحاً أنه لن يكون لإيران وميليشياتها أي وجود في الجنوب السوري، ودار حديث عن انسحاب لهذه الميليشيات مسافة 60 إلى 70 كلم، أي إلى شمال دمشق، على أن تحدد المرحلة الأولى من هذا الانسحاب بـ20 كلم، أي الابتعاد عن هضبة الجولان، وارتبط ذلك بمعالجة منطقة «خفض التصعيد» الجنوبية بما يتضمن القبول بوجود الجيش السوري على معبر نصيب مع الأردن. لكن الأمور على الأرض لم تكن بالسلاسة التي أرادتها موسكو، ففي أول الأسبوع الحالي تحدثت الصحف العالمية، وبينها صحف روسية، عن عودة هذه الميليشيات إلى الجنوب السوري في لباس الجيش النظامي من ضمن وحدات من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة السورية. وفي حلقة حوار في بيروت بمشاركة إعلاميين روس، دار حديث عن المناورات الإيرانية، وقال أحد الضيوف إن الوجه الآخر للنهج الروسي الدفع نحو بدء مفاوضات جادة، وهذا الوجود للحرس الثوري يعيق أي عملية سياسية.
من المؤكد أن طهران ما زالت مستمرة على توقيتها، ويُشيعُ مريدوها أنها تتحرك على أرض ثابتة، وأن لا شيء سيغير قيد أنملة من «البراعة» الإيرانية التي مكنت طهران – خامنئي من الإمساك بأربع عواصم عربية، والتفرد بتوجيه نهجها وقرارها. وها هو قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، الذي لم يترك منطقة إلاّ وأخذ فيها «سيلفي»، يتبجح بأن «حزب الله» فاز في الانتخابات بأكثرية 74 مقعداً في البرلمان، واضعاً لبنان في خانة «المقاومة» و«الممانعة» بوجه العقوبات الدولية... ويرسل جماعته لحرق صناديق الاقتراع في بغداد ولو هدد ذلك بوضع العراق على حافة حرب أهلية بعدما خذل العراقيون أتباعه بالاقتراع ضد هيمنة طهران.
لا شك أن القراءة والرؤية الأميركية السابقة منذ مرحلة «المحافظين الجدد» حتى نهاية حقبة الرئيس أوباما، «دعشنت» المسلمين السنة أكثرية أهل هذه البلدان حتى قبل تصنيع «داعش»، وأنجزت واشنطن قبل الاتفاق النووي بأكثر من عقد، تحالفاً مع طهران غير معلن، شكل العنصر الأبرز في التمدد الإيراني، وتزامن ذلك مع وضع عربي متراجع عزز من منحى تصدير الثورة الإيرانية والنجاح في تعميق الانقسام الفلسطيني؛ ما دعّم من هذه الهيمنة على المنطقة. وفي لحظة الانكسار في العراق وسوريا، حيث كادت «داعش» تهدد بغداد، وتتراجع السيطرة في سوريا إلى أقل من 18 في المائة، كان تشجيع بغداد لطلب مؤازرة أميركية، وتحرك إيراني – سوري نحو روسيا لطلب حماية نظام الأسد، وهكذا التقى الطلب السوري مع الحاجة الروسية لموطئ قدم لم يحققه الاتحاد السوفياتي في عزِّ جبروته، فروّج المريدون روايات عن «براعة» أهل فارس حائكي السجاد الشهير!
لكن الزمان لم يتوقف ويكاد يكون النقيض لأزمانٍ سابقة، والمعطيات الملموسة جعلت إمكانية حفاظ طهران على مشروعها الإقليمي أقرب إلى الحلم منه إلى الحقيقة. البداية كانت مع انطلاقة عملية الحزم، حيث بدأ لي الذراع الحوثية التي كادت تمنح طهران القدرة على التحكم بباب المندب وما يعنيه لكل العرب وللملاحة الدولية. وجاء الحدث النوعي الذي تمثل بقرار الرئيس الأميركي الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات على إيران ومضاعفتها على الشركات التي يمكن أن تتعامل معها. ورغم كل المواقف الأوروبية التي تزعم أن الاتفاق النووي هو عامل استقرار وتتعامى عما تقوم به إيران في كل المشرق العربي، فإنه من السذاجة القول إن الاتفاق إنما هو بين أطراف متساوية 5+1، فخروج أميركا لا يوازيه بقاء الآخرين، ونجاح قمة ترمب - كيم بتوقيع وثيقة شاملة لجعل شبه الجزيرة الكورية خالية من السلاح النووي، أعطى مصداقية أعلى للطروحات الأميركية بحتمية تخلي حكام طهران نهائياً عن طموحهم النووي وفرملة طموحاتهم العدوانية، وعودة إيران في نهاية المطاف إلى داخل حدودها وتقييد مشروع الصواريخ الباليستية.
دورة عقارب ساعة الزمن شملت القيصر الروسي «المتفهم» جيداً مطالب تل أبيب، والذي لا يسقط من حسابه لا المطالب الأميركية ولا الرغبات العربية التي تطالبه بإخراج ميليشيات الحرس الثوري، والتفهم الروسي هذا يتزايد مع الحديث عن قمة قريبة تجمع الرئيسين بوتين وترمب. بأي حال ردد إعلاميون روس من بيروت أن المصالحات التي تمت بإشراف «حميميم» لم تقتلع السكان، ونفوا أي اتهام لموسكو بأنها تحمي التغييرات الديموغرافية وتقبل عمليات التوطين الجارية. بهذا السياق تتكثف جهود الضباط الروس لتسليم الأرض لقوات الفيلق الخامس المدعوم روسياً، وهذا التدبير يلقى قبولاً لأن بديله بقاء ميليشيات الحرس الثوري؛ ما سيؤدي في أي وقت إلى حرب مع إسرائيل، حرب مدمرة عالية التكلفة، ستشمل لبنان وقد لا تكون طهران بالذات بمنأى عنها.
المرحلة دقيقة وصعبة، لكن المنحى البارز يؤكد أن الأنشوطة تضيق على مشروع الهيمنة الإيرانية، وسيكتشف حكام طهران مع التطورات المتسارعة، أن الوقت لم يعد حليفهم، خصوصاً مع كماشة العقوبات الخارجية، واتساع التحرك الاحتجاجي في الداخل، الذي بات يشمل الطلاب والعمال والفلاحين وحتى رجال البازار إلى كافة القوميات والأقليات العرقية في بلد تكشف وكالة «إيسنا» الطلابية الرسمية، عن أن أكثر من 33 في المائة من سكانه هم تحت خط الفقر.