عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

أزمة الديمقراطية أم أزمة الصفوة الحاكمة؟

المشكلات التي صاحبت تشكيل الحكومة الإيطالية تطرح عدة أسئلة.
هل تواجه الديمقراطيات البرلمانية الأوروبية أزمة تاريخية تتطلب تعديلات دستورية جذرية، أم أن الأزمة في الصفوة المسيطرة على مؤسستي الحكم والرأي العام؛ التي فيها من يحتقر غالبية طبقات الشعب ويدعي تمثيلها؟
وماذا عن دور الاتحاد الأوروبي ومسألة التوازن بين الدولة القومية التي اعتادها العالم، وبين التجمعات الإقليمية عندما تتخذ ملامح الدولة الفيدرالية؟
هل لعبت العولمة والأموال العابرة للحدود دورها في تعقيد الأزمة خاصة عندما يفقد البنك المركزي (البنك القومي للدولة) التحكم التقليدي في سعر العملة، والسياسة المالية؟
وما هو النظام الديمقراطي الأكثر استقراراً؟
أسئلة تهم القراء المنشغلين بالإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية، فبلا إشباع الحاجة الاقتصادية للناخبين تنحصر الديمقراطية في دائرة النخبة الأقلية مما يزيد من تغريب غالبية الشعب، أي نقيض الديمقراطية باعتبارها حكم الشعب للشعب.
الأسئلة التي تتعلق بطبيعة الديمقراطية وأفضل نظم الحكم تذكرنا بما ينسب للسير ونستون تشرشل، بأن الديمقراطية هي أسوأ نظم الحكم، باستثناء بقية النظم الأخرى. والحقيقة أن تشرشل استشهد بها نقلاً عن سياسي سابق أثناء مناقشة في مجلس العموم في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 بقوله: «أنظمة كثيرة من طرق الحكم جربت وستجرب في هذا العالم المليء بالأسى والخطايا. ولا يمكن الادعاء بأن الديمقراطية هي النظام الأمثل والأكثر حكمة؛ لكنني أسترجع القول السابق إن الديمقراطية هي أسوأ أنظمة الحكم فيما عدا كل أشكال أنظمة الحكم الأخرى التي جربت من عصر إلى عصر».. (حسب مذكرات تشرشل نفسه لكنه لم يذكر اسم سابقه صاحب القول ومن المحتمل أن يكون نقلها عن رئيس الوزراء الأسبق السير روبرت بيل 1788 - 1850 مطور حزب المحافظين في القرن الـ19).
إشكالية إيطاليا الأولى هي نظامها الانتخابي:
نظام القوائم النسبية، المتبع في مصر والعراق على سبيل المثال وعدد من البلدان الأوروبية يقسم المقاعد البرلمانية وفق قوائم. في بلدان يتراجع فيها الولاء للوطن والحزب أمام الولاء للعشيرة والقبيلة نجد أن النظام يعمق الانقسام الطائفي والقبلي. وعامة يوسع الهوة بين النائب وناخبيه ويفتح باب الفساد (الحزب في قوائم المرشحين يفضل النفوذ والمصالح على الكفاءة).
نظام القوائم غالباً ما ينتج عنه برلمان معلق ويستغرق تشكيل الحكومة أسابيع وأشهراً، أو ائتلافات لم تكن في الحسبان كما رأينا في حال ألمانيا وإيطاليا، لأنه يوزع أصوات القوائم الخاسرة على الأحزاب الفائزة، ويذهب صوت الناخب إلى حزب لم يختره، وأحياناً يناقض مصالحه.
بينما نظام الدوائر، كبريطانيا مثلاً يكون حاسم النتائج (17 حكومة بريطانية في 70 عاماً لم يأت فيها برلمان معلق سوى ثلاث مرات، بينما شهدت إيطاليا قرابة 80 حكومة في الفترة نفسها، معظمها ائتلافية قصيرة العمر). كما أن نظام الدوائر يضع الناخب في علاقة مباشرة مع ممثله البرلماني مما يجعل النظام أكثر تمثيلاً.
الأزمة ظهرت في تدخل رئيس الجمهورية الإيطالية، حسب مواد الدستور، في الاعتراض على تعيين وزير مالية يريد إخراج بلاده من منطقة اليورو، وهنا تتداخل بضعة عوامل أخرى.
الدستور يعطي رئيس الجمهورية الحق في رفض تعيين وزير المالية لكن المادة الدستورية نفسها تتناقض وروح الديمقراطية فيتضح مغزى الحكمة التشرشلية، بأن الديمقراطية تمكن لأقلية نخبوية استغلالها بإدخال مواد دستورية لا يكتشف الشعب خطورتها إلا عندما تستلها الصفوة الحاكمة لتطعن بها الناخب في ظهره.
ورغم أن رئيس الجمهورية الإيطالية سيرغو ماتاريلا يسوّق مبررات كحماية السوق المالية الإيطالية، فإن الظاهر أنه يضع مصالح الصفوة الحاكمة في الاتحاد الأوروبي (خارجية)، قبل رغبة الأغلبية من شعبه. خطوة لم يتخذها أي نظام ملكي في العصور الحديثة، بل إن الملوك يضحون بأبنائهم في الجيش ويقاتلون في صفوفه الأمامية (مثل كل أمراء الأسرة الملكية في بريطانيا مثلاً).
وحتى إذا أخذنا مبررات ماتاريلا على ظاهرها البريء، فإن الاتحاد الأوروبي بصفته كياناً أكبر خارج سيطرة الناخب الإيطالي والحكومة التي تمثله، يقوض أسس الديمقراطية وهي حق الناخب، بصفته دافع ضرائب، في اختيار الحكومة التي تمثل مصالح الأغلبية وتعمل للشعب كله. فهنا وضعت المؤسسة الإيطالية المسيطرة مصالح القوى المستفيدة من العملة النقدية، اليورو، قبل المصالح المالية والاقتصادية للناخب الإيطالي نفسه. فعندما دخلت إيطاليا (ضمن 19 بلداً آخر) منطقة اليورو (وهو ما رفضته بريطانيا وسبعة بلدان أخرى) فقد البنك المركزي الإيطالي أهم ما يميز البنك القومي لأي دولة، وهو تحديد معالم الاقتصاد. فالمستفيد الأول الذي يحدد الهوامش التي تقوي أو تضعف من اليورو في الأسواق العالمية هو البوندزبانك (البنك المركزي الألماني). الخطورة بالطبع أن المعادلة المعتادة في نظام حرية السوق، أن ارتفاع سعر العملة يعني الاستثمار العالمي فيها ويدعم المستهلك في شراء السلع المستوردة، والانخفاض في سعر العملة يفيد الصادرات ويجذب السائحين. لكن الاختلاف بين أسعار الفائدة واليد العاملة والضرائب وبقية تكاليف الإنتاج في إيطاليا عنها في 18 بلداً آخر، يجعل هذه المعادلة الاقتصادية عاجزة عن تقدير ميزان المدفوعات (الصادرات والوردات) ورسم خطط الميزانية القومية المستقلة.
وهذا كان أحد أسباب حصول اليمين، حزب الرابطة بزعامة ماتيو سالفيني وحزب النجوم الخمس بزعامة لويجي دي ملو على أغلبية الأصوات، في انتخابات أزعجت الصفوة الليبرالية الحاكمة ومؤسسات صناعة الرأي العام في الاتحاد الأوروبي وعواصم الغرب التقليدية (لندن، باريس، برلين) التي تبدي عدم اهنمام للغالبية الساحقة من الشعوب.
فإذا كانت الحركة الانتخابية في الشارع من اليسار (معادية لسياسات الرئيس دونالد ترمب، وتعتبر التسخين الحراري سبباً للتغير المناخي في قدسية الدين، وتدعم الفيدرالية الأوروبية، ومعادية للأنظمة الملكية في أوروبا، وتدعم الحركة النسوية وحق المرأة في الإجهاض وترحب بالهجرة) تسميها المؤسسة الصحافية الليبرالية حركة ديمقراطية شعبية. أما إذا كان الشارع نفسه مع الفقراء وحاجاتهم الأساسية والمحافظة على القيم الأسرية التقليدية وحماية الثقافة القومية، تعلق الصفوة الليبرالية لافتة «التيارات الشعبوية» عليها.
تلخصت ازدواجية المعايير هذه في علاقة الرئيس الإيطالي ماتاريلا بالصفوة الأوتوقراطية غير المنتخبة في بروكسل وكانت وراء تفجير الأزمة السياسية في إيطاليا عندما أراد الحزبان الممثلان لأغلبية الناخبين تنفيذ الوعود الانتخابية بالخروج من اليورو وتحسين أحوال الفقراء.
فالأزمة إذن ليست أزمة ديمقراطية، بل أزمة الصفوة الليبرالية المسيطرة على أوروبا اليوم في توظيفها للأدوات الديمقراطية لعرقلة مسيرة الديمقراطية نفسها.