عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

نقل السفارة وأحداث غزة... ماذا بعد؟

كم كان الفارق هائلاً بين مشهد «الاحتفال» بافتتاح السفارة الأميركية في القدس، وما تخلله من كلمات وابتسامات وتصفيق، ومشهد الدخان والرصاص والدماء، على الجانب الفلسطيني في غزة. المفارقة كانت كافية لإغراق كلام الجانب الأميركي عن ضرورة العمل لتحقيق السلام، وهو كلام بدا وكأنه محاولة باهتة لتطمين كل من حذروا واشنطن من مغبة خطوتها، ومن تأثيراتها على فرص السلام، وانعكاساتها المحتملة على الأوضاع المحتقنة.
حتى هذه المحاولة الباهتة، عصفت بها الكلمة الصادمة التي ألقتها المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هيلي، أمام مجلس الأمن، ورفضت فيها أي ربط بين نقل السفارة والعنف الذي حدث على حدود غزة، وذهبت إلى حد الإشادة بما وصفته «ضبط النفس» الإسرائيلي، قائلة: «إنه لا توجد دولة في هذه القاعة يمكن أن تتحلى بضبط النفس أكثر مما تقوم به إسرائيل».
لم تكتفِ هيلي بدفاعها الأعمى عن إسرائيل، بل انسحبت من الجلسة بمجرد أن بدأ المندوب الفلسطيني إلقاء كلمته، معتبرة أن الأمر كله لم يكن يستأهل عقد جلسة لمجلس الأمن، ناهيك عن المطالبة بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في استخدام إسرائيل المفرط للقوة، الذي أدى إلى مقتل أكثر من 60 فلسطينياً، وجرح ما يقرب من 3 آلاف من المشاركين في مظاهرات «حق العودة»، والاستنكار لنقل السفارة الأميركية.
واشنطن بدت معزولة عن غالبية أعضاء مجلس الأمن، وبعيدة عن كل العقلاء الذين حذروها من مغبة خطوة نقل سفارتها إلى القدس، لأنه يشكل انحيازاً تاماً لموقف إسرائيل، التي تصر على اعتبار القدس «عاصمة أبدية موحدة»، بكل ما يعنيه ذلك من خرق للقانون الدولي، وانتهاك لقرارات مجلس الأمن، ومن استفزاز للفلسطينيين والعرب، ولمشاعر المسلمين في كل مكان.
من الصعب تصور أن الإدارة الأميركية لم تتوقع حدوث احتجاجات واسعة على قرارها، أو أنها لم تضع في حساباتها الموقف الفلسطيني، الذي وصفها بأنها لم تعد وسيطاً أميناً في أي عملية سلام. الأرجح أنها وضعت كل ذلك في حساباتها، لكنها قررت أن ردود الفعل ستبقى محدودة وقليلة التأثير، وبالتالي لا تمنعها من تنفيذ الوعد الذي قطعه الرئيس ترمب إبان حملته الانتخابية، والتزم به أمام اللوبي اليهودي في أميركا، بنقل السفارة، أملاً في أن يساعد هذا الموقف في إقناع الحكومة الإسرائيلية ببعض التنازلات لإنجاز «صفقة القرن». هذا الموقف عبر عنه ترمب، وكرره مساعدوه، بمن فيهم جون بولتون مستشاره الجديد للأمن القومي، الذي قال في مقابلة أخيراً إن نقل السفارة لن يبعد السلام، بل سيقربه.
الرئيس ترمب وعدد من المحيطين به يرون، وفقاً لبعض التسريبات، أن رمي حجر في البركة الراكدة سيحرك الأمور، وأن الفلسطينيين بعد أن يفيقوا من الصدمة سيعودون إلى طاولة المفاوضات، لأنه لا بديل عن ذلك أمامهم. وتراهن الإدارة على أنه مهما كان حجم الانتقادات لموقفها، فإن كل الأطراف تدرك أنه لا أمل في تحريك عملية السلام من دون مشاركة أميركا، باعتبارها الطرف الوحيد القادر على التأثير على الموقف الإسرائيلي.
القضية الفلسطينية تواجه لحظة عصيبة، أمام تطرف حكومة نتنياهو، وتأييد إدارة ترمب المطلق لها، والخيارات تبدو محدودة وصعبة، إذا كنا واقعيين وابتعدنا عن ضباب الشعارات التي أوصلت الأمور إلى ما انحدرت إليه. فالاكتفاء برفض استئناف المفاوضات لا يمكن أن يعتبر لوحده استراتيجية لتحقيق المطالب الفلسطينية، بينما إسرائيل تواصل سياسة الأمر الواقع وقضم الأراضي. كذلك فإن كل عاقل يعرف أن الوضع العربي الراهن لا يسمح بأكثر من المراهنة على المفاوضات لتحقيق حلم الدولة الفلسطينية.
في ظل هذه الأوضاع، يستغرب المرء استمرار الفلسطينيين في مشاحناتهم، وتعثر كل محاولات المصالحة. فحتى في أحداث غزة الأخيرة، كان الانقسام واضحاً، مثلما هو مؤلم، لأن الفلسطينيين إذا لم يوحدهم موضوع القدس، فما الذي يمكن أن يجمعهم؟ في مقابل الحشد الكبير للاحتجاجات في غزة، كانت المشاركة محدودة في الضفة الغربية، وخالية إلى حد كبير من مشاهد العنف. «حماس» قد تكون رأت في تصعيد الاحتجاجات فرصة للهروب إلى الأمام من الأزمة التي تواجهها، في ظل الضغوط والغضب في قطاع غزة، ووسيلة للضغط والوصول إلى هدنة جديدة. هذا الأمر لم يفت على واشنطن وإسرائيل، وسهل عليهما حملتهما السياسية لتصوير الاحتجاجات على أنها مدبرة لإشعال الوضع، ومحاولة اجتياح الحدود.
الانقسام الفلسطيني يضعف الموقف العربي، الضعيف أصلاً، ويجعل التحركات باتجاه أي مفاوضات سلام محفوفة بالمشكلات التي تجيد إسرائيل استغلالها. توحيد الصف هو الخيار الوحيد أمام الفلسطينيين، وكل شيء يجب أن يبدأ من هنا. فمثلما وضح في أحداث غزة الأخيرة، فإنه حتى خيار المقاومة السلمية يصبح ضعيفاً من دون توحد كل الأطراف حوله، وحول خطواته وغاياته. لقد بحت أصوات المنادين بتوحيد الصف الفلسطيني، وإنهاء حالة التشرذم والانقسام. وما لم تستجب القيادات، سيبقى المواطن الفلسطيني يدفع أبهظ الأثمان، من دمه وأرضه وحلمه.