حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

إخراج لبنان من النار هل ما زال ممكناً؟

لم تكن الأوساط المتابعة تنتظر المؤتمر الصحافي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وحديثه عن وجود برنامج نووي سري إيراني وموقع نووي جنوب طهران، وأن القيادة الإيرانية كذبت على المجتمع الدولي بخصوص نواياها النووية، حتى يكون بالإمكان رؤية المنحى الخطير لتدهور الوضع في المنطقة، وهو منحى أكده مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي الجديد، الذي وصف وثائق نتنياهو بأنها «حقيقية»، ولاحقاً قال البيت الأبيض إن التفاصيل الإسرائيلية «مقنعة».
هذه المعطيات التي استبقت قرار الرئيس ترمب في 12 مايو (أيار) الحالي بشأن الاتفاق النووي، تلت ضربة صاروخية مدمرة في سوريا هي الخامسة على التوالي منذ سبتمبر (أيلول) 2017، قالت دمشق بعد يومين إن مرتكبها ما زال «غير معلوم»، موضحة أن الرادارات لم تلحظ أي نشاط جوي أو صاروخي (...)، وقد استهدفت أبرز القواعد الإيرانية المحصنة في سوريا كـ«اللواء 47» في ريف حماة الجنوبي وعدة مواقع إيرانية بين ريفي حلب وحماة، التي استمرت تتلاحق فيها الانفجارات أكثر من ساعتين، وهي مواقع وصفتها صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية بأنها مخابئ أسلحة إيرانية متطورة، بينها 200 صاروخ باليستي عالي الدقة، وشبكة صواريخ أرض - جو لم يتم نصبها بعد، الأمر الذي يؤكد تصميماً صهيونياً على اقتلاع الوجود الإيراني من سوريا مهما كان الثمن.
حرب بالتقسيط تدور في المنطقة بين تل أبيب وطهران. إيران التي مُنعت من الاقتراب من الجولان، وحُرمت من الوجود في منطقة الساحل، ركزت على الإمساك بوسط سوريا ومحيط دمشق للتحكم بالصراع والربط مع لبنان، فيما إسرائيل قبلت مؤقتاً أو مُكرهة اتساع النفوذ الإيراني في شرق المتوسط، ثم سعت عبر موسكو لإبقائه تحت السيطرة، وكان من نتيجته تجاهل موسكو تنفيذ إسرائيل أكثر من 130 عملية ضد أذرع «الحرس الثوري» في سوريا قبل بدء الاستهداف المباشر للقواعد الإيرانية. ومعروف أن إسرائيل منذ اللحظة الأولى رفضت الاتفاق النووي. ومع التغيير الكبير في الإدارة الأميركية، وتحميل واشنطن لطهران المسؤولية عن زعزعة الاستقرار في المنطقة، بدت المواقف المتتالية لكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في إسرائيل حاسمة برفض إيران نووية، وعدم القبول بوجود عسكري إيراني كبير ودائم في سوريا، بذريعة أن ذلك تهديد لأمنها!! هذه الحرب بالتقسيط يمكن أن تتطور بقرار أو بالاستدراج إلى حرب شاملة؛ كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد حذر منها بقوله: «يجب ألا تقودنا سياسة إيران في المنطقة إلى حرب في الشرق الأوسط».
اليوم مع اعتراف إيران بالضربة، وتجاهل عدد القتلى لأنه «على دمشق أن تعلن ذلك»، كما أعلن ناطق إيراني رسمي (...)، ووصفها بأنها اعتداء صارخ على «سيادة» سوريا، وكأن ميليشيات «الحرس الثوري» هم الحماة لهذه السيادة، يبدو أن طهران تحاول تجنب المواجهة المباشرة أخذاً بالاعتبار الخلل الكبير في ميزان القوى بينها وبين إسرائيل من جهة، ومن جهة ثانية ربما يعود العنصر الحاسم في سلوكها إلى ما تراه من صراع جيوسياسي واسع ترى أنه في مصلحتها، لكنها بالنهاية لا تتحكم بالحاسم من أوراق اللعبة. بالتأكيد هناك ارتباط بما يجري في لبنان والعراق، ورهان سياسي ليس بخافٍ على أحد: 6 مايو موعد الانتخابات اللبنانية، وفي الثاني عشر منه موعد الانتخابات العراقية. وقبل ذلك وبعده هناك ما سوف يصدر عن واشنطن في 12 مايو الحالي.
رغم أن لوحة التنافس في العراق قد لا تكون نتائجها مواتية كلية لطهران، حيث إن أبرز الأقوياء كرئيس الوزراء عبادي يسعى للتحرر من الهيمنة الإيرانية، فضلاً عن آخرين مؤثرين، تبدو طهران مرتاحة أكثر في الوضع اللبناني بعدما ربطت التسوية كل أطراف المحاصصة في لبنان بـ«حزب الله». وهكذا بدل أن تتحول الانتخابات اللبنانية إلى مناسبة تنافس بين برامج سياسية ورؤى عن لبنان البلد الذي يطمح المواطن العادي لاستعادته، انطلاقاً من حساب يجب أن يوضع أمام الناخب، غابت السياسة كلياً عن لوائح الطبقة السياسية، والبديل تمثل في فتح «معركة» تحقيق حواصل انتخابية ومقاعد، فتُرك لأكثر المتنافسين استخدام سلاح الخوف من الآخر، سلاح إطلاق الغرائز والعصبيات الطائفية، والعنوان عند أكثر السياسيين الحفاظ على حقوق الطائفة، أي حقوقهم هم بالذات، وفتح معارك الاستئثار والخوف من الآخر داخل كل طائفة لتجويف النتائج عبر شطب الحالات المستقلة الأكثر صدقاً وأمانة في التعبير عن النسيج اللبناني، سواء الطائفي أو المناطقي، هذا فضلاً عن سلاح الرشوة الذي جعل الاستحقاق النيابي الأغلى ثمناً. كل ذلك يجري بدل الشفافية في البرامج الواعدة والصدق في التوجه للمقترعين، وأساساً إثارة جوهر ما يواجهه لبنان من تحديات بعدما أدخله «حزب الله» قسراً أتون الحرب على الشعب السوري، وحال انفتاح المواجهة التي تقترب لا يمكن للبنان بأي حال إلاّ أن يكون جزءاً من مسرحها.
الانتخابات اللبنانية التي تأخرت 5 سنوات عن موعد إجرائها نتيجة توافق أهل الحكم على التمديد لأنفسهم مغتصبين ثقة الناس وأصواتهم، ضاربين بالدستور عرض الحائط، يمكن رغم كل الملابسات أن تكون مؤشراً إيجابياً ينبه ويحذر من مخاطر السير بلبنان قسراً إلى «محور الممانعة»، وحيث في ظلِّ تحكم الدويلة ينخر الفساد المحمي البلد. طبعاً ليس الأمر مجرد تمنٍ، وإن كان الاقتراع في الخارج، وهو حدث بالغ الأهمية، وكان يستحق جهداً أعلى وتوجهاً شفافاً، جاء أقل بكثير من التوقعات، إذ إن أسماء المهاجرين الواردة على لوائح الشطب، وهم بحدود مليون و300 ألف مقترع، لم يتسجل منهم إلا نحو 82 ألفاً، ولم يقترع منهم سوى 48 ألفاً، أي بحدود 5 في المائة من العدد الإجمالي، وهم العناصر الحزبية لا أكثر، يبقى التعويل على الداخل لتحويل يوم الانتخاب إلى يوم محاسبة حقيقية للسلطة كلها، خصوصاً مع وجود نحو 800 ألف مقترع من الشباب يمارسون حقهم الديمقراطي لأول مرة، وهاجس الجو الشبابي تطبيق الدستور وقيام دولة القانون، ما قد يسهل بعض الخروقات الجدية في الدوائر الكبرى، وهذا الهدف كبير الأهمية، والإمكانية متوفرة، كلما تراجعت نسبة «القرفانين» الممتنعين عن التصويت، كي لا يكون لبنان أمام 4 سنوات عجاف جديدة، نتيجتها الالتصاق بالاحتلال الجديد الزاحف، واستعادة سواد حقبة كان المواطن يعتقد أن عودتها مستحيلة، والأهم إيجاد نواة نيابية تُفرمل أخذ البلد وقوداً في خدمة نار الأطماع الإيرانية.