توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

تجديد الخطاب الديني... رؤية مختلفة

مع اقتراب شهر رمضان المبارك، يتجدد الحديث عن الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني. وهو مطلب يتفق غالبية المسلمين على عمومه. لكن آراءهم تتباين في معنى التجديد ومجالاته وحدوده. فمعظم الناس يصرفه إلى تجديد الفقه وتيسير الأحكام، وترك الشاذ والعسير. ويدعو فريق منهم إلى مراعاة ما استجد في حياة الناس، وما جاء في سياق الحداثة من تحولات، في مصادر العيش وأنماطه أو في العلاقة بين الناس.
لكني أود دعوة القارئ إلى معنى أبعد قليلاً مما سبق. أعني به صياغة نموذج جديد للفكرة الدينية، قادر على مواكبة تحولات الحياة في العصر الجديد، الذي أهم سماته عولمة السوق والثقافة وسيولة القيم والهويات. نموذج كهذا ينبغي تأسيسه على رؤية غير تقليدية لمكانة الإنسان في العالم الجديد، وموقع الدين في حياته. وهو يستدعي بالضرورة تحرراً من الأنساق والأعراف الموروثة، أي ما ورثناه وما تعارفنا عليه باعتباره صورة وحيدة للدين، أو تعبيراً وحيداً عن الإيمان.
في رمضان الماضي، قدم العلامة د. محمد شحرور رؤية عميقة في هذا الاتجاه، خلاصتها أن العالم الديني هو العالم الذي تتجلى فيه عقلانية البشر. الدنيا العاقلة هي التطبيق القاعدي للدين. ومن هنا فهو يميز بين الرؤية الكونية التي تصل الإنسان بالعالم ككل، وما فيه من بشر وأشياء، وبين التشريعات والأحكام التي تحمل سمات الجماعة والمكان.
وفي هذا السياق، يلح شحرور على أن الواجبات والمحرمات الدينية محدودة العدد. أما العشرات من الأحكام الأخرى التي تنطوي على إلزام أو منع، فهي جزء من نظام ثقافي أو قانوني، يضعه المجتمع في ظرف محدد، بحسب حاجاته أو أعرافه. ومن هنا فهي ذات مضمون محلي إن صح التعبير، وليست قواعد عمل كونية، كنظيرتها المستقاة من القيم العليا الأساسية.
في سياق قريب، اقترح د. مصطفى ملكيان التركيز على ركني العقلانية والمعنوية، كعمودين متساندين لأي رؤية دينية جديدة. المعنوية عنده هي جوهر الدين ومحور تمايزه عن الآيديولوجيات البشرية. إنها جوهر كل الأديان، وقد تشكل نقطة التقاء بين أتباعها، بل وحتى نقطة توافق مع أولئك الذين لا يتبعون أي دين.
أما العقلانية عنده فتعني في أحد وجوهها، قابلية الدعاوى الدينية للاختبار في هذه الدنيا. الدين المفيد هو ذلك الذي يمكنه تقديم حلول لمشكلات البشر الدنيوية، ولا يكتفي بإحالة العلاج إلى الآخرة. لو أخذت نوعين من العلوم؛ أحدهما يعرض حلولاً يمكن لك اختبار ثمراتها الآن، بينما يدعوك العلم الثاني لتطبيق مقولاته، وانتظار نتائج اختبارها العملي في الآخرة، فما الذي سيختاره الإنسان العاقل؟
الواضح أن كلا الرجلين يشير إلى ثلاثة أركان للتفكير الديني الجديد؛ أولها محورية العقل في التشريع وتقديمه على النقل. وثانيها التمييز بين القيم الكبرى المعيارية والتشريعات ذات الطبيعة المؤقتة أو المحلية. وثالثها هو التركيز على آنية الحل الديني، وضرورة كونه قابلاً للاختبار في الحياة الدنيا.
ينطلق الرجلان من فرضية أن الله سبحانه أنزل الدين من أجل الإنسان. ولم يخلق الإنسان من أجل الدين. وبهذا فإن مفهوم الطاعة والعبادة والإيمان والسلوك إلى الله، يتخذ معنى مغايراً لما عرفناه من خلال تراث الماضين.
قد تتفق مع شحرور وملكيان وقد تخالفهما. لكن تنظيرات الرجلين تفتح آفاقاً للتأمل في معنى التجديد، يتجاوز ما تعارفنا عليه حتى الآن.