د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

حول تقصير الخطاب الناقد للإسلام السياسي

لو أمعنّا النظر في كيفية معالجة الخطاب النقدي العلمي لمسألة الإسلام السياسي وحركاته، نلحظ أن هذه المعالجة تكاد لا تخرج عن 3 موضوعات متقاربة هي: مفهوم الإسلام السياسي وتاريخ ظهوره، ونشأة الحركات الإسلاموية وأعلامها، وأيضاً النسق المفاهيمي لفكر الإسلام السياسي ومؤسسيه. طبعاً هذه المعرفة مهمة ونحتاج إليها ولا غنى عنها تقريباً في أي معالجة لظاهرة الإسلام السياسي. ولكن الملاحَظ أن هذه المعرفة قد تم استهلاكها والمبالغة في توظيفها فقط من أجل قراءة خطاب حركات الإسلام والإمساك بمواطن تناقضه كخطاب، ومدى اعتماده خطة الازدواجية بين الخطاب والممارسة السياسيّة.
أغلب النّدوات حول الإسلام السياسي يعيد بعضها إنتاج بعض. وأغلب البحوث يكاد يكرر نفس الأفكار ويتوقف عند المفاهيم ذاتها ويبحث عن مظاهر الازدواجية والانفصام بنفس المنهج، أي منهج تحليل الخطاب.
يبدو لنا أن هذه المعالجة لم تعد ذات فائدة تُذكر اليوم لأن ما توصلت إليه من استنتاجات ونتائج أصبحت معلومة، وتوقفنا عند صحتها مراراً.
إن هذه المعرفة ناقصة جداً، ولم تستطع وحدها تفكيك ظاهرة الإسلام السياسي التي هي مثل أي ظاهرة لا يستقيم فهمها وتفسيرها إلا بالقبض على أكثر ما يمكن من أبعادها.
لذلك ظل الإسلام السياسي، رغم كل التناول الإعلامي والفكري والبحثي العلمي في بعض إشكالياته وأبعاده، غامضاً.
يبدو لنا أنه إلى جانب معرفة فكر الحركة ومبادئها والأفكار التأسيسية التي تحكمها وقصة الإسلام السياسي من النشأة إلى اليوم، من المهم، بل لا بد، توجيه الجهد الذي لم يوجَّه بعد نحو الخزان الاجتماعي والقاعدة الشعبية لحركات الإسلام السياسي. لم ننتبه إلى أن نقطة قوة هذه الحركات في قواعدها الشعبية. لو أحسنّا الانتباه لحوّلنا وجهة البحث من تحليل الخطاب، على أهميته، إلى البحوث القائمة على الدراسات الميدانية مثل المقابلات، وتقنية السرد الشخصي للحياة، والاستبيانات للحصول على بيانات ومعطيات تمكّننا من معرفة الخصائص السوسيولوجية لقواعد الإسلام السياسي والمتغيرات الاجتماعية لهذه القواعد.
هذا الخزان الاجتماعي مبهم، بالمعنى العلمي للإبهام: معرفتنا تنهل من الحس المشترك فقط ومن الأفكار المتداولة الشائعة، أي أنها معلومات انطباعية وليست نتاج بحوث ميدانية علمية. عندما نتعرف بشكل علمي دقيق وموضوعي على خصائص القواعد الشعبية لحركات الإسلام السياسي، فنكون قد قبضنا على محركات هذه الظاهرة وأسبابها والمعاني الذاتية التي يستبطنها المنتمون إلى الإسلام السياسي.
لم ننزل إلى الميدان لمعرفة القواعد الاجتماعية للحركات الإسلامية: ما أكثر الفئات العمرية انتماءً إلى هذه الحركات؟ نحن نعتقد أن فئة الشباب هي الفئة العمرية المهيمنة عددياً على القواعد الشعبية الإسلاموية، ولكن لا نمتلك معطيات دقيقة. ثم هل لا تزال نفس الفئة العمريّة هي أكثر الفئات انتداباً في هذه الحركات؟
أيضاً، هل الخزان الديموغرافي الاجتماعي ذكوري أساساً؟ وهل لا تزال الهيمنة الذكورية الكمية هي نفسها؟ وما نسبة انتماء النساء في الإسلام السياسي؟ وهل هذه النسبة في انخفاض أم في ازدياد. وأيُّ فئة عمرية تهيمن على الانخراط النسوي في الحركات الإسلاميّة؟
أيُّ المستويات التعليمية أكثر وأقل إقبالاً على الحركات السياسية الإسلامية؟
كذلك التوزع الطبقي للمنتمين إلى هذه الجماعات: بعض الدراسات التي ربطت بين ظهورها وتأزم الوضع الاقتصادي، أظهرت أن المهمشين اقتصادياً هم الرصيد الاجتماعي للحركات الإسلامية. في المثال التونسي مثلاً رأينا كيف أن أزمة التعاضد في الستينات كانت محدداً رئيسياً من محددات ظهور نواة الحركة الإسلامية ونشاطها آنذاك. ومعظم القراءات تربط بين انتعاش الإسلام السياسي والأزمات الاقتصادية... ولكن هل فعلاً المحدد الاقتصادي لا يزال مهماً وبنفس الدرجة في تحديد الانتماء إلى حركات الإسلام السياسي؟
نطرح هذا السؤال لأن هذه المقاربة الطبقية تحتاج إلى مراجعة جذرية، باعتبار أن هناك من ينتمون إلى الطبقة الغنية في المجتمع منخرطون في هذه الحركات وعددهم حسب الملاحظة العادية في ازدياد، وهي ظاهرة تستحق التثبت العلمي الدقيق.
عندما نتحصل على هذه البيانات سيصبح الخزان الاجتماعي (مصدر قوة الأحزاب الإسلامية) واضحاً ومكشوفاً ومعلوماً، وهي المعرفة التي نحتاج إليها في معالجة هذه الظاهرة وفهمها والقبض على أسبابها. فكما نعلم، طبيعة الحركات الإسلامية متكتمة وحريصة على تسويق الغموض حولها والتكتم، كما نلاحظ دائماً على تقارير مؤتمراتها التي يغلب عليها السريّة. بل إن مؤتمراتها هذه لا يحضرها غير المنتمين إليها لأنها مؤتمرات يعلو فيها النقد الذاتي والنقاش والخلاف، وتقدّم فيها قرارات وتوجهات جديدة للتصويت. لذلك فإن ما تخفيه هذه الحركات من بيانات ومعرفة مهمة حولها يمكن أن تكون أساس أعمال علمية مهمة، يجب أن يحاول الباحثون الناقدون التغلب على ندرته وغموضه، والتعويل أساساً على البحوث الميدانية التي تقوم على عينات كبيرة أكثر ما يمكن لرفع درجة الموضوعية.
عندما نعرف من ينخرط في الإسلام السياسي نستطيع إضعاف خزانه الاجتماعي، ويجب ألا يفوتنا أن هذا الخزان يتغير وغير ثابت.
طبعاً لا يفوتنا أن البحوث الميدانية حول الإسلام السياسي تحتاج، كي تمسح عينات كبيرة، إلى إمكانات مادية مالية كبيرة وفرق عمل من الباحثين. يبدو لي أن المراكز موجودة والمال موجود ولكنه موجّه إلى الأعمال غير الميدانية ويُنفَق حول النظري الذي أسرفنا فيه.