ميشال دوكلو
السفير الفرنسي السابق في سوريا
TT

سياسة «حافة الهاوية» في سوريا

ربما يتذكر بعضنا الأوقات التي كانت تتظاهر فيها دمشق بأنها «قلب العروبة النابض» وأنها جزء رئيسي من «محور المقاومة» وما شابه، لكن قد تقودنا نظرة يقظة واعية على الوضع الاستراتيجي الحقيقي للبلاد إلى تقييم مختلف إلى حد كبير، وهو أن سوريا العاتية القوية بقيادة الأسد كانت دولة تحت حماية مزدوجة، حيث تعتمد على تسامح إسرائيل ودعم إيران.
مع ذلك، هذه مفارقة ينبغي عدم المبالغة فيها، فقد اعتاد رعاة آخرون المشاركة في دعم حكم نظام عائلة الأسد طوال سنوات بحسب الظروف، وكانت الولايات المتحدة في بعض الأحيان طرفاً قوياً يضفي شرعية على نظام «البعث» خلال الفترة التي كان فيها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر يجوب المنطقة على سبيل المثال. كان النفوذ الروسي يتأرجح على مدى تلك السنوات، لكنه لم يختفِ مطلقاً، خصوصاً فيما يتعلق بالشؤون العسكرية؛ أما أوروبا ومعظم العالم العربي فقد كانوا يغمضون أعينهم في أكثر الأوقات، ويتغاضون عن الجانب المظلم جداً للنظام. لكن في النهاية عندما ينظر المرء إلى الماضي، وتحديداً العقد السابق للانتفاضة السورية، سيرى أنه كان من السهل بالنسبة للقوات الجوية الإسرائيلية قصف القصر الرئاسي ومقرّ الحرس الجمهوري في دمشق. لذا نظر بشار الأسد، وربما حتى والده، إلى إيران بوصفها الكفيل والضامن الأهم لنظامه، ومن هنا تأتي فكرة الدولة تحت الحماية المزدوجة.
على الجانب الآخر بالنسبة لإسرائيل، كان نظام الأسد بمثابة «الشيطان الذي نعرفه»، وكانت الجبهة مع سوريا هي الحدود الأكثر هدوءاً مع دولة إسرائيل بفضل عائلة الأسد. لا عجب، إذن، من النظر إلى الأحداث التي بدأت في مارس (آذار) 2011 على أنها ضد المصالح الإسرائيلية. لقد تمكنت القيادة الإسرائيلية من التكيف مع الوضع المتطور من خلال الدفاع عن مصالحها الأساسية وحماية «خطوطها الحمراء» من خلال تنفيذ هجمات جوية منتظمة اعتيادية ضد النظام، أو أي قوات أخرى يتم الإمساك بها خلال عملية نقل سلاح لـ«حزب الله». وربما كانت إسرائيل تأمل في بداية الأمر في أن يؤدي وجود المقاومة المسلحة، وأي جهة أخرى من اختراع الغرب، إلى الحد من خطر ظهور تهديد جديد لحدودها؛ ثم جاء التدخل الروسي، وأصبحت العمليات العسكرية الروسية مبعث راحة في نفوس الحكومة الإسرائيلية، ليس لأن نتنياهو يضع كامل ثقته في فلاديمير بوتين، لكن لشعور السلطات الإسرائيلية بأنها ستجد على أعتاب ديارها طرفاً محاوراً، وقوة عظمى ذات دولة مركزية يمكن الاعتماد عليها وتدرك جيداً مصالحها الاستراتيجية، وتمارس السياسة التقليدية المعروفة التي يمكن إيجازها في القول إنها غير معادية لإسرائيل مما يجعلها شريكاً يمكن لإسرائيل التعاون والعمل معه.
بطبيعة الحال في الوقت نفسه كان التدخل الإيراني في المنطقة يتنامى، بينما تركز الولايات المتحدة على تنظيم داعش من دون إبداء أي اهتمام بالبقاء على الأرض بشكل مستدام. ساهم هذان العاملان؛ أي ازدياد التحدي الإيراني وموقف واشنطن فيما يتعلق بالانسحاب، في زيادة مركزية وأهمية علاقة إسرائيل الاستراتيجية مع روسيا. يعتمد الإسرائيليون، رغم عدم التصريح بذلك بشكل واضح، على روسيا في السيطرة على النفوذ الإيراني في سوريا. إنهم على الأرجح مستعدون لاتخاذ خطوة أخرى إضافية، والاستعداد للتعايش مع نظام الأسد في ثوبه الجديد لعشرات السنوات المقبلة بحسب ما يقتضي الأمر؛ شريطة أن تجعل روسيا مؤسسات الدولة السورية أقوى وأقل اعتماداً على الدعم الإيراني. في النهاية هذه هي سياسة حافة الهاوية التي اعتادتها إسرائيل.
ما سجل الإنجازات والإخفاقات الخاص بالشراكة الإسرائيلية - الروسية في الوقت الراهن؟
أولاً: لم تنجح الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة في سوريا، أو الحوار مع موسكو في منع «حزب الله» من أن يصبح تهديداً خطيراً لإسرائيل. تعني زيادة حجم ترسانة صواريخ تلك الجماعة المسلحة اللبنانية أن الصراع المقبل بين إسرائيل و«حزب الله» سيؤدي إلى سقوط عدد أكبر من الضحايا؛ من بينهم مدنيون إسرائيليون، فضلاً عن تدمير هائل للمدن الإسرائيلية. في هذا الإطار توضح نتيجة سلسلة الهجمات، والهجمات المضادة التي تم تنفيذها في 10 فبراير (شباط) الماضي، مع الوضع في الاعتبار إسقاط طائرة عسكرية إسرائيلية، أن ميزان القوى ليس في صالح القوات الإسرائيلية بالدرجة التي كان عليها سابقاً.
ثانياً: لقد اقترب «الممر الشيعي»، الذي ينظر إليه كثيرون في إسرائيل بوصفه خطراً حقيقياً، من مرحلة الاكتمال، وبات قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، قادراً على التحرك كما لو أنه في بيته من بغداد إلى مدينة البوكمال، فضلاً عن مناطق أخرى من بينها الحدود الفاصلة بين إسرائيل ولبنان.
إذا لم يتخل الرئيس دونالد ترمب عن عزمه على إنهاء الوجود الأميركي على ضفاف الفرات، فربما سيأمل الجنرال سليماني بالفعل في إنشاء مقر في الرقة أو دير الزور.
ثالثاً: في 9 أبريل (نيسان) الماضي قصفت إسرائيل مباشرة للمرة الأولى موقعاً إيرانياً بمنشأة في حي حمص. ما الذي حدث بعد ذلك؟ أدانت السلطات الروسية للمرة الأولى الهجوم الإسرائيلي، وأجرى الرئيس بوتين مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأبدى عدم رضاه عن الأمر. بحسب بعض التقارير، خلُص نتنياهو من هذه المحادثة إلى عدم رغبة الروس في تقييد الوجود الإيراني في سوريا، أو ربما عدم قدرتهم على ذلك. وعلّق وزير الخارجية لافروف على ذلك قائلاً إن «الالتزام الأخلاقي» بعدم نقل الـ«إس 300» إلى سوريا لم يعد له وجود الآن.
من الممكن حالياً أن تنخرط موسكو في بعض الأعمال الاستعراضية لطمأنة الدولة الإيرانية الحليفة لها، لكن مع وجود النية السرية بمواصلة منح إسرائيل ما تحتاجه. مع ذلك يمكن للمرء القول بلا أدنى شك إن روسيا تريد الاحتفاظ بقواعد عسكرية في سوريا على المدى الطويل مع تفادي الانخراط بشكل دائم في «مستنقع». من الصعب تخيل كيف يمكن للقيادة الروسية تحقيق هذا الهدف المزدوج من دون إقامة تحالف راسخ قوي مع إيران على الأقل في سوريا. تبدو فكرة أن روسيا قادرة على دعم نظام الأسد بما يكفي لضمان استقلاليته عن طهران، مغالطة وفكرة خاطئة.
بوجه عام؛ قد يدرك المراقب من الخارج أنه بدلاً من الضغط على ترمب لإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، قد يتمتع نتنياهو بالحكمة الكافية لحث الرئيس الأميركي على اتخاذ الإجراءات المتاحة والممكنة كافة من أجل السيطرة على شمال شرقي سوريا. في حال عدم حدوث ذلك، فسيكون الأمن الإسرائيلي في أيدي روسيا إلى حد كبير في وقت تلوح فيه أجواء حرب باردة بين العواصم الغربية.
لقد ذكرنا خطة العمل المشتركة الشاملة. إذا اتخذ ترمب قرار الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو (أيار) المقبل، فربما يدفع ذلك إيران نحو استئناف برنامجها النووي، وانتهاج مزيد من السياسات العدائية في المنطقة. هل هناك ما يؤكد أن الأميركيين سيواصلون العمل حتى النهاية، وينخرطون مرة أخرى بشكل جدي في الشرق الأوسط؟ بالطبع لا. لسياسة «حافة الهاوية» حدود، وتوضح التجربة أن اتباع تلك السياسة في سوريا يلحق ضرراً بالغاً بالمنطقة كلها.
- السفير الفرنسي السابق لدى سوريا
خاص بـ«الشرق الأوسط»